الزَّجَل اللبنانيّ
وزغلول الدامور في بيت مِري
تمهيد:
يوم غنّى شاعرُ لبنان الزَّجَليُّ الأوّل، زغلول الدامور، في نيويورك في 10 نيسان 1998، وما استطعتُ حضورَ الحفلة الكبيرة لظروفٍ طارئة— يومَها أرسلتُ رسالةً قصيرة مع صديقي جيم يَمّين وسألتُه تسليمَها للزغلول. فيها عرّفتُه بنفسي وطلبتُ أن يُرسلَ إليّ، بعد عودته إلى لبنان، نسخةً من كتابه الجديد "خمسون سنة مع الشعر الزَجَليّ" الذي سمعتُ أنّه أَصدرَه مُؤخَّرًا في بيروت. وما كان أَكبرَ دهشتي عندما عاد صديقي حاملاً نسخةً من الكتاب مع إهداءٍ بخطّ الزغلول نفسه. إهداءٌ عاديّ فيه يقول الشاعر: "يُشرِّفُني أن أُقدّمَ لك كتابي هذا، الديوان الأوّل بعد [خمسين] سنة من النضال في سبيل هذا الفنّ اللبنانيّ الأصيل الذي نذرتُ نفسي لخدمته. أرجو بعد أن تكتبَ لي عن أشعاري وزَجَلي بأن تُرسلَ لي ما سوف تكتبُه على هذا العنوان: زغلول الدامور-البوشريّة -الدورة -لبنان". ووقَّعه بإمضائه الخاصّ، ووضعَ التاريخ.
بعد قراءة هذه المقدِّمة القصيرة، استوقفَتني أمورٌ ثلاثة:
1- هذا إنسان رهَنَ حياتَه ووقتَه وجهدَه، وكرّسَ عمرَه—"خمسون سنة من النضال في سبيل هذا الفنّ اللبنانيّ الأصيل"—ولا يزال يجوب الأقطار، قريةً ومدينةً وبلدًا، يقطع البحار ويُغنّي الحُبَّ والوَطن للمُقيمين والمغتربين على السواء.
2- كنتُ قد ذكرتُ في رسالتي للزغلول أنّي أَودُّ الكتابة عن الزجَل عامّةً وعنه وعن حفلة بيت مِري عام 1971 خاصّةً. فإذا بكلمته تُشجِّعُني على ذلك، لأنّنا فعليًّا بحاجة ماسّة إلى دراساتٍ ونَقْدٍ وكتاباتٍ ليس لتأريخ الزجَل فقط، بل لتحليل قصائده الرائعة التي تُعتَبَرُ من عيون الشعر العربيّ اللبنانيّ العامِّيّ، والتي لا تقلُّ مكانةً وجودةً وسَبْكًا وحَبْكًا عن أيّة قصيدة نُظِمَت باللغة الفُصحى، هذا إذا لم تَفُقْها رقّةً وإمعانًا في الدخول إلى قلوب السامعين. كيف لا وهي وليدةُ الارتجال والعَفويّة وبِنْتُ ساعتها! فالقصيدة أو الردّة الزجَليّة لا تخلُدُ إذا ما رواها راوٍ عن لسان صاحبها. حلاوتُها وخلودُها مرهونان بشخصيّةِ شاعرها وصوتِه وجودةِ إلقائه وحُسنِ أدائه وقُدرتِه على استلهام المناسبة وخَطْف اللحظةوتجميد الصورة في إطارٍ من العفويّة والبلاغة في آن.
ويسألُني الزغلول أن أُرسِلَ له بالذي سوف أكتبُه، وهو مُدرِكٌ تمامًا وواعٍ لتلك الحاجة المُلِحّة والفراغ الرهيب الذي فرضَته ظروفٌ سياسيّة وجِدالاتٌ فلسفيّة ولُغَويّة وأُخرى دينيّة وغير دينيّة. ذلك الحصار غير المقبول بعد الآن الذي ضربَه الغُلاةُ لغةً ودِينًا حول قصائد اللغة العاميّة، فمنعوها من الوصول إلى مَصافِّ شعر اللغة الفُصحى التي هي—ونحن نعتزُّ بذلك ونزهو—لغةُ القرآن الكريم الذي نزلَ بلُغة الضاد. لكنَّ هؤلاء نَسوا أو تناسَوا أنّ الكتابَ العزيز إنّما أُوحيَ إلى رسول اللّه (صلعم) بلهجة قُرَيش قبل أن تُصبحَ لغةَ النبوّة والوَحي. وأنا لستُ من الداعين إلى إحلال العامِّـيَّة محلَّ الفُصحى أو إلى استبدال الأُولى بالثانية، لكنّني على يقين من أنّ الشعرَ الشعبيّ الذي هو تراثُنا وديوانُنا وسِجلُّ ذاكرتنا الجَماعيّة ووسيلتُنا المفضَّلة عَفويًّا للتفاهُم والتخاطُب اليوميّ_ هذا الشعر العفَويّ الارتجاليّ، الذي هو حقيقةٌ كما الأرز والأهرام والبَيداء، جديرٌ بأن يُدرَس بعُمق ويُدرَّس في المدارس. وجديرٌ بالذِّكر أنّ كثيرين من أعلام الفُصحى غَنَّوا بالعاميّة وتغنَّوا بها. نذكرُ على سبيل المثال لا الحَصر: المطران جبرائيل القلاعيّ (1440-1516)، الشيخ إبراهيم الحورانيّ (1844-1916)، رشيد نخله (1873-1939)، جبران خليل جبران (1883-1931)، عبد الله غانم (وُلِد 1897)، إميل لحّود (وُلِد 1899)، بولس سلامة (1902-1979)، سعيد عقل (وُلِد 1912)، أنيس الفغاليّ (وُلِد 1921)، الدكتور خليل حاوي (توفّي 1982)، يونس الابن (وُلِد 1926)، عاصي الرحباني (1923-1986)، منصور الرحباني (وُلِد 1925)، جوزف أبو ضاهر (وُلِد 1947)، الدكتور جورج زَكي الحاجّ (وُلِد 1949).
وإذا كنتَ في شكّ مِمّا أقولُه، فما عليك إلاّ أن تسمعَ أو تقرأَ لشحرور الوادي (1894-1937)، وخليل روكز (1922-1962)، وإدوار حرب (1939-1989)، وأسعد سعيد (1922-)، وزَين شعَيب (1924 -)، وزغلول الدامور (1925-)، وموسى زغيب (1937-)، وطليع حمدان (1944-)، وجريس البستاني والعشرات غيرهم من رُوّاد هذا الفنّ المُبدِع. وأنت إن فعلتَ، فلن ترى فروقًا كبيرة بين أبياتهم وتلك التي خطّتها يراعُ المثلّث الأُمويّ وبشّار وأبي تمّام والمتنبّي والمعرّي وآخرين من فطاحل شُعرائنا بالفُصحى. ولن يَضيرَها في شيء إن قارنتَها بشعر المُحْدَثين والمُعاصرين من السَّيّاب والبيَّاتي والفَيتوريّ والحَيدري والصَبور وحاوي وأَدونيس وسعيد عقل ونزار قبّاني وغيرهم.
3- بعد هجرةٍ ليست بالقصيرة عن أرض الوطن إلى حيثُ الأرقام والآلات الحاسبة جزءٌ مهمّ من الحياة، ابتسمتُ طويلاً عند عنوان الزغلول: "زغلول الدامور -البوشريّة - الدَّورة..." لا أرقام، ولا تعقيدات في العنوان. فالزغلول مثل أيّ شخص آخر في لبنان (تقريبًا) معروف في محيطه ومنطقته باسمه وشهرته لا برقم بيته المصمود على علبة البريد؛ فالبيت يُعرَف بأصحابه لا بأرقامه.
الزجَل: نشأتُه وتطوُّرُه
معروفٌ أنّ الشعرَ ابنُ بيئته، يستمدُّ طراوتَه وخشونتَه، صُوَرَه ورموزَه، من مُحيطه ومن قُدرة الشاعر على التعامُل مع هذه البيئة ومدى ارتباطه بها أو انطوائه عنها. الشعرُ البليغ الجيِّد يبقى شعرًا أكان قد قيل بالفُصحى أم بالعامِّـيَّة. فالشاعر المُبدِع يستقطب انتباهَك ويبهرُك بنفحة العبقريّة التي تفوح من أبياته إنْ هو قالها بلغة المتنبّي أو بلهجة زغلول الدامور. هذا إضافةً إلى أنّ الزجَل يمتاز عن شقيقه الشعر الفصيح أو هو يُجاريه في ذلك بأنّه ما كُتِبَ ليُقرأَ فحسْب، بل أوّلاً وأخيرًا ليُلقى، ويُنشَد ويُغنّى من على المنابر وفي الساحات العامّة؛ فهو دائمًا بحاجة إلى جمهور. هكذا الشعر العربيّ عامّةً خطابيّ مِنبريّ. فليبقَ إذًا سوقُ عُكاظ مفتوحًا دائمًا. هذا الشعر العفويّ وُجِد يوم تكوّنَت اللغةُ المَحكيّة؛ لذلك يُرجعُه بعضُ الدارسين إلى الجاهليّة الأُولى يومَ كان الحِداءُ شائعًا على ظهور الإبل. ويرى بعضُهم الآخر أنّ عنترة والمُهَلهِل نفسَهما نظَما زجَلاً (1). والمعروف ثابتًا أنّ العربَ "في الأندلس عرفوا هذا النوع من الشعر، فنظموه وكتبوا فيه الدواوين؛ وأشهرُ زجَّاليهم ابن قزمان"(2). وراح هذا الزجَل يمدُّ جذورَه في مختلف البلدان العربيّة حتّى أصبح لكلّ قُطْرٍ زجّالوه وزجَلُه المميَّز عن غيره. فظهر الزجَلُ المصريّ، والتونسيّ، والخليجيّ (المعروف بالنبَطيّ)، كما يُعرَف في لبنان بالشعر اللبنانيّ.(3) وفي حين أنّ هذا اللونَ الشعبيّ في مختلف الأقطار العربيّة بقيَ مكتوبًا، يُغنّيه مُطربون ليسوا هم شعراءَه أَصلاً، اتّخذَ الزجَلُ في لبنان خاصّةً مَنْحًى فذًّا وأصبح فنًّا راقيًا له أربابُه و"ملوكُه" كما سنرى. فالطبيعة في لبنان سمحاء كريمة لا تقلُّ جمالاً وطراوةً وعذوبةً عن طبيعة الأندلُس؛ فأبدع الشعراءُ في مجال الزَّجَل، وتبارَوا في صياغته، وكانوا هم أنفسُهم يُؤَلّفونه ويُغنّونه في مُناسبات الفرح والحُزن، في السهرات والحفلات والمآتم، وصَولات الفخر والهجاء وحفلات التحدّي، حتّى تكاد لا تخلو مناسبةٌ من وجود شاعر زجَليّ يُؤنِسُ الحاضرين ويُخلِّد تلك المناسبة.
والذي امتاز به اللبنانيّون عن سواهم في هذا المضمار أيضًا هو أنّهم كَوّنوا فِرَقًا خاصّة للزجَل تجمع بين أعضائها أربعة زجّالين؛ ويكون رئيسُ الجوقة أقدمَهم وأكثرَهم شُهرةً وخبرةً في القَول والارتجال. وهكذا خرجوا بهذا الشعر من حَيِّز الخصوصيّة، أي خصوصيّة المناسبات الفرديّة، إنْ على مستوى الشاعر أو الغرَض، إلى حيّز العموميّة التي تتّخذُ من المنبر ساحًا لها في كلّ مدينة وقرية ودسكرة، وتفتح المجال واسعًا للصَّول والجَول، لا بين شُعراء الجَوقة الواحدة فحَسْب، بل-كما سنرى- بينهم وبين فُرسانٍ شُعراء من جَوقةٍ أُخرى، مِمّا يزيد الحماس والإثارة. فكما إنّه لكلّ جَوقة مُحبّوها ومُحبّذوها ورُواتُها، كذلك لكلّ شاعر بمفرده مُحبّوه وتابعوه ورُواتُه ونُقّادُه. فالشاعر العربيّ منذ الجاهليّة حتّى العصر العبّاسيّ، مثلاً، كان له راوٍ يتبعه ويحفظ شعرَه ويرويه. أمّا الشاعرُ الزجَليّ (أو الزجّال) فيكون له عدَدٌ كبير من الرُّواة والأتباع المخلصون له والمُروِّجون لشعره وشخصيّته وحفلاته؛ هؤلاء يتواجدون في كلّ قرية ومدينة. هم جمهورُ هذا الشاعر الدائم الحضور، وشعبيّتُه السيّارة التي تتوافد إلى كلّ حفلة أو سهرة يُحييها أو يُقيمُها، خاصّةً إذا كانت حفلةَ تَحَدٍّ بينه وبين زجّال آخر. وإذا فكَّرَ واحدُنا بأن يستخفَّ أو يهزأَ بهذا اللون من الشعر الذي له أصولُه وبحورُه وألوانُه كما للشعر العموديّ والعروض الخليليّ_ أقول إذا خطرَ ببالِ أحد أن لا يحملَ هذا الشعر على محمل الجِدّ، فليضَعْ نفسَه موضعَ أيِّ شاعر من كبار قُوّاد الزجَل أو حتّى صغاره في مناسبة أو حفلة حيث الجمهورُ مُحتشدٌ بالمئات وغالبًا بالآلاف، ومُكبِّراتُ الصوت تُضخِّم أيّةَ تنهيدة تصدرُ من الشاعر وهو يتهيّأُ للخَوض في موضوعٍ مُعيَّن مع زجّالٍ آخر له أيضًا مُحبّوه وأتباعُه ورُواتُه. وهؤلاء الناس (أي الجمهور) لا يقبلون القليل، ولا يرضَون بالهزيمة، ولا يتحمَّلون التردُّد والتعثُّر في الكلام أو الخروج عن الموضوع. فالشاعر له ولاؤهم الكامل ما دام قادرًا على إشباع غرورهم وطموحهم، وإرضائهم بشعرٍ عفَويّ صائب وبديهةٍ سريعة وعاطفةٍ جيّاشة وصُوَرٍ وخيالاتٍ فريدة. ومِمّا يجعل المهمّة أصعب على الشاعر هو أنّه، في بعض المناسبات، لا يستطيع اختيارَ الموضوع، خاصّةً في حفلات التحدّي الكبيرة. الجمهور يختار الموضوع قبل بَدء الحفلة بقليل. وما دامت حفلةَ شعرٍ ارتجاليّ، ابنِ ساعته ووليدِ مناسبته، فالفَلاح للشاعر المُلهَم الموهوب، السريعِ البديهة والقادرِ على الارتجال؛ أمّا الذي هو بحاجة إلى الكتابة والتحليل والتفكير الطويل، فلا عملَ له مع هؤلاء الشعراء، ولا مكانَ له على المنبر.
وكما للعرب جاهليّتان، في ثانيتهما نَضجَ الشعرُ الجاهليُّ بدايةً مع إمرئ القَيس، فكذلك مرَّ الشعرُ العامِّيُّ الارتجاليّ بجاهليّتَين قبل وصوله إلينا بحالته الحاضرة الراقية. وهذا الشعرُ، وإن كان وليدَ اللغة المَحكيّة وثمرتَها الطبيعيّة، فقد وُلِدَ مُتأثّرًا بعنصرَين أساسيَّين أكسباه صفتَه الخاصّة التي يمتاز بها.
أوّلاً: كان تأثيُر الألحان السريانيّة والترانيم والميامير والمداريش. فمار أفرام السريانيّ مثلاً الذي يعتبُره كثيرون طليعةَ شُعراء الزجَل (بل نظّاميه) في الجاهليّة الأُولى(4)، نظَمَ الصلاةَ زَجَلاً باللغة السريانيّة. وأخذ هذا اللونُ ينتشر في سوريا والأُردُنّ وفلسطين؛ وكان أوّل دخوله إلى لبنان باللغة السريانيّة. وبسبب هذا التأثُر السريانيّ الكبير مالَ الدكتور إميل يعقوب إلى الظَنّ "بأنّ أكثر شُعراء الزجَل اليوم هم من الموارنة"(5).وليس هذا من باب الحَصْر طبعًا. ويُجمِعُ النقّاد على أنّ المطران جبرائيل القِلاعيّ اللِحْفِديّ هو أوّل مَن وصلَت إلينا أشعارُه مخطوطة؛ ولذلك اعتبره مارون عبّود "القَوّال الأوّل".(6)
ثانيًا: يجب ذِكرُ بعض الأُصول والمنابع العربيّة، وإن كانت غيرَ مُثبَتةٍ في كُتُب النُقّاد والباحثين لضَعف تأثيرها بنشوء الزجّل ولعدم وجود المراجع الكافية.(7)
لقد تميّز اللبنانيُّ بثروته الفطريّة التي صيغَت أغانيَ وأناشيدَ وقصائدَ على لسان شُعراء الزجَل والارتجال في لبنان. ولقد صدَق عبد الله الأخطل حين ميّز بين الفِطرة والعِلم فقال: "الفرقُ بين العلم والفِطرة لهو في نظري كالفرق بين النبعِ الفوّار وبئر الشتاء... الأوّلُ يُعطي من نفسه، فيتجدّدُ أبدًا، ويتشعّبُ أبدًا، ويتنوّعُ أبدًا... أمّا آبارُ الشتاء... على غزارتها وعُمقها، فيها شُحّ الأراضي المُجدِبـة"(8). فالعلمُ والنظمُ ورصفُ الكلمات وصياغةُ المعاني والتفنّنُ في البديع والبيان واصطيادُ الأفكار العابرة والسهَرُ الطويل مع القلم والورقة ليست بالضرورة من مُستلزمات العبقريّة والقريحة الفيّاضة والإبداع المحلِّق. ألم يقُل المتنبّي مُحاولاً إبعادَ شبح النظم والسهَر الطويل عن أبياته الفريدة؟
أنامُ مِلءَ جفوني عن شواردِها
ويسهرُ الخَلقُ جرَّاها ويختصمُ
وما دمنا في الحديث عن المتنبّي المُعترَف له بأبلغ ما قيل في الشعر العربيّ حكمةً وفخرًا ومديحًا إلى جانب الصياغة المتينة والإبداع الفريد، فقصائدُ أبي الطيّب_وإن لم تكن كحَوليّات زُهَير وليدةَ سَنواتٍ من التصميم والتركيز، أو منحوتةً من صخر كقصائد الفَرَزدَق مثلاً_ فإنّها لم تكُن بدون تكلُّف وتعبٍ فكريّ؛ بمعنىً آخر لم تكُن كلامًا عفَويًّا تلقائيًّا آنيًّا وليدَ لحظته. فلنستعِدْ بالذاكرة الحادثةَ الشهيرة، يومَ كان أبو الطيّب بين يَدَي سيف الدولة يُلقي رائعتَه الميميّة المشهورة التي مطلعُها "واحرّ قلباه"، وكان، كعادته، يمزجُ المَديح بالفخر والاعتزاز بالنّفس (حتّى قيل: نادرًا ما مدح المتنبّي غيرَ نفسه)؛ فما كان من مُستشار سيف الدولة، ابن خالَوَيه، إلاّ أن رَماه بدَواة، فشَجَّ رأسَه. ولمّا لم يهُبَّ سَيفُ الدولة للذَود عن كرامة الشاعر الذبيحة وشرَفِه المُهان، ارتجل الشاعرُ البيتَ التالي الذي لم يكن، أصلاً، جزءًا من القصيدة المُلقاة، وفيه يقول:
إنْ كان سرَّكُمُ ما قال حاسدُنا
فما لجُرحٍ، إذا أرضاكُمُ، ألَمُ
والتركيز هنا على كلمة "ارتجل"؛ وهذا من نوادر الأمور في الشعر الفصيح، أَي أن يَبتدهَ الشاعرُ بيتًا بِكرًا وليدَ لحظته. على عكس ذلك الشاعرُ الزجَليّ، فنمطُه التأليفيُّ، بصورة عامَّة، هو الابتداه. إضافةً إلى ذلك عليه أن يُعيدَ رَدّتَه إذا ما طالبَه الجمهور بذلك، وأن يُضيفَ إلى مطلعها بيتَين على الأقلّ. فمن حقّ الجمهور أن يُطالبَ قائلاً: "عيدْها وزيدْها". وما على الشاعر المُعتلي المنبر إلاّ أن يُضيفَ مطلعًا جديدًا من بيتَين على الأقلّ مُجاريًا نفسَ الوزن والقافية وروحيّةَ المعنى المنشود انسجامًا مع بقيّة الردّة السابقة قلبًا وقالبًا. والشاعرُ الزجَليّ يعتزُّ ويفتخر بتضمينه أبياتًا ومعانيَ مُنتقاة من الشعر الفصيح الجاهليّ أو الأُمَويّ أو العبّاسيّ، مثلاً، واستخدام أسماء شُعراء الكلاسيكيّة الكبار في ردّات الزجَل، والاستشهاد ببعضٍ من أقوالهم ومواقفِهم، وخَلْق صفةِ قرابة بين الزجّال وأحد أولئك الأعلام. فكثيرًا ما نرى أسماءَ شُعراء المعلّقات والأخطل وجرير والفَرَزدَق والبُحتريّ وأبي تمّام والمتنبّي والمعرّي، فضلاً عن جبران، تُستعمَل رموزًا ودَعْمًا لمَوقفٍ أو لحُجّة عند الزجّال. ذلك إضافةً إلى لمحاتٍ من التُراث العربيّ والعالَميّ. فهذا موسى زغَيب يقول للزغلول في بيت مِري، بعد أن اتّهم الزغلول موسى بأنّه فقدَ صوابَه ونصَبَ سياجًا ليصونَ ما تبقّى من عقله أمام جحافل أفكار الزغلول، لشدّة خَوفه من هجومٍ فُجائيّ عليه:
وما بسيِّجْ على عقل شاعر جوهريّ
فيه المعرّي وإبن بُرْد والبُحتري
وسارتر ونيتشه وشكسبير العبقري
ونمل المعنّى مونتو عن بَيدري
فيقول الزغلول_وقد “تَعِبَ” كما تعبَ الناسُ من تهرُّب زغَيب الذي شبّه نفسَه بـ"المَلِك"، كما لبِسَ عباءة الحُسَين، وقارنَ نفسَه بعيسى، واستعان باسم موسى النبيّ واسم الرسول العربيّ علَّه يتخلّص من موقفٍ حَرِج وَضَعَه فيه الزغلول نافيًا وجهَ الشَبَه بين موسى زغَيب وموسى النبيّ، وبين عَصا زغَيب وعَصا النبيّ:
جيب العصايي العند موسى صاحبَك
تا اليوم كَسِّرْها عَراسَك يا صَبي
ويُضيف الزغلول وقد حوّل عصا زغَيب إلى عصا العبيد التي أشار المتنبّي إليها:
الملك كافور متلَك كان أسوَدْ
عَبْد، شِفّه وَطا وشِفّه غطاها
وعندْما هاجَمو بالشعر أحمَد
أبو الطيّب لوى الكرسي ولِواها
وعصاتو الجِلْدَك عليها معوَّدْ
قبْل ما يشتري الزنجي اشتراها
وأنا رجعت دفعت ليرات أزْوَدْ
تا أحضى بها العصا وجرَّك وراها
حاجْ تتهرّب وتزعَلْ وتحردْ
كفاها خلْط هالعالَم كفاها
وإذا استنجدت بعيسى ومحمّدْ
ما راح سيبَك ولا برْمي العصايي
قبْل ما تدوِّر "حراجِل" عزاها.
ويحسنُ الإيضاح أَنَّ بلدة حراجِل هي مسقط رأس موسى زغَيب .
ولعلّ أَفضلَ ما استخدمه الزغلول من رموز دِفاعًا عن مَوقفٍ معيّن نجدُه في لقاء "النسور والصقور" الذي جمعَه مع الشاعر موسى زغَيب في حفلة التحدّي الكُبرى في بيت مِري، عام 1971، التي تُشكّل غايةَ هذه الدراسة، كما سنرى في الجزء الثاني منها.
زغلول الدامور: مقامُه وريادتُه في تطوير الزَّجَل
نعود إلى الزغلول الذي يكاد اسمُه يكون مُرادِفًا لكلمة زَجَل. فواحدُهما لا يُعرَف بدون الآخر. الزغلول الذي ملاْ لبنان وشغل اللبنانيِّين بل العرَب، وأطرب الجماهير وأسكرَها بكلماته الرقيقة العذبة، ومعانيه البليغة، وبديهته الحاضرة أبدًا وأُسلوبه السهل الممتنِع_ ينطبق عليه تعريفُ جبران للشاعر. وحين يُنشد الزغلول يُصيب، ولا يخرج عن الموضوع، سواء كانت أبياتًه في مجال المديح أو الذمّ أو الفَخر أو الرثاء. فهو لخبرته العميقة وباعِه الطويلة في الارتجال، في شتّى الموضوعات والمناسبات، تراه قد عجنَ اللغة وخَبَزَها، فطاوعَته القوافي، ورقصَت له الأوزان، وحضَرَتْه المفردات تقفُ رَهْنَ إشارته، يُقَولبُها كيفما أراد، ويسكبُها كحبّات العقد الفريد واحدةً قرب أُختها؛ فإذا بقصيدته أو ردّتِه كالدُرّ النَّضيد، أو كباقة الياسمين المشكولة أزرارها واللؤلؤ الوهّاج. هذا كلُّه إضافةً إلى أداءٍ يأخذُ بالقلوب، وصوتٍ ولا أجمل، يُعطي كلَّ مناسبة موسيقاها الفريدة ونغَمها المطلوب، إضافةً إلى تجويدٍ ومُحاكاةٍ لصوت الناي أو الكمان. وحدَه الزغلول قادرٌ على مَوسَقَةِ النغَم. يخرجُ اللحنُ من بين شفتَيه فتكاد، وأنت تستمع له، تظُنُّ أنّك في حضرة جوقة تجمعُ الكلمةَ والنغَم. فالزغلول هو الشاعر، وهو المغنّي، وهو المُلحِّن في آن. وبعد أن تبهرَك كلماتُه وتسحرَك أبياتُه، ترتاح لصوته وأدائه الرائعَين؛ فصوتُه نابعٌ من حنجرة لا تتعبُ ولا تتجرّح، ولا تعرفها البحّة، ولا يدركُها طولُ المجال في الغناء. فقلّما تجدُ شخصًا لم يسمعْ صوتَ الزغلول أو لم يسمعْ به في لبنان المقيم ولبنان المغترب والعالَم العربيّ. هو من الركائز العريقة التي يرتاح عليها تراثُنا الشعبيّ. كلُّ مناسبة يُدعى إليها يُخلِّدُها. إنّه (الشيخ) الجليل (والكاهن) المحترَم الذي ناضل من أجل هذا الفنّ اللبنانيّ الأصيل والذي نذرَ نفسَه لخدمته، فكرّس حياتَه وشبابَه للنهوض بفنّ الزجَل إلى ما وصل إليه الآن. إنّه الشاعر الذي تكاملَت فيه عناصرُ الإبداع التي تسمو به إلى شرفات الخلود. فقد جاد عليه الخالقُ تعالى بالبلاغة واللباقة وسرعة البديهة وحضور الذاكرة والصوت المخمليّ. وقد أدركَ الزغلول كلَّ هذه العطايا—وكان بطبعه الخَلوق مُقدِّرًا لهذه المواهب الفريدة—فأصبح شاعرَ كلّ لبنان، وراح يتكلّم بصوت كلّ لبنانيّ بلا استثناء: في الأعراس، في المآتم، في الحرب وفي السِلم، وفي كلّ المناسبات الخاصّة الشعبيّة والرسميّة. وهو أميرُ المنابر بلا مُنازع في حفلات التحدّي التي خاضها قُبالة كثيرين من فرسان المنبر؛ فصارت أبياتُه محفورةً في ذاكرتنا، وبقي صوتُه يصدحُ في آذاننا في كلّ حين.
وهنا يحضرُني قولُ الشاعر الكبير نزار قبّاني في تقديم كتاب "الناي والريح" لشاعر لبنانيّ كبير أيضًا هو الدكتور خليل حاوي. يقول قبّاني عن حاوي "شاعرٌ جذّابُ الشخصيّة، لا يستعير أصابع الغَير ولا يشرب من محابرهم."
وهكذا الزغلول أشعارُه وليدةُ عبقريّته الفذّة؛ فهو طائرٌ فَرْدٌ بين طيور الغناء، وشاعرٌ نسيجُ وَحدِه بين أُمراء الارتجال، لا يقلِّدُ الشعراءَ الآخرين، ولا يمدُّ يَدَه إلى موائدهم. "هو البحر" كما قال المتنبّي، وغيرُه هُمُ الأنهار والسواقي والآبار الشحيحة أو الموسميّة.
وُلِدَ الزُغلول (جوزيف الهاشم) في البوشريّة، قضاء المتن، عام 1925. درس في الجدَيدة، ونال الشهادة المتوسّطة عام 1936. بدأ يرتجلُ الشعر وهو ما يزال تلميذًا في التاسعة من عمره. وكان يصرف وقتَه في المدرسة ينظمُ الشعر بدلَ أن يلعبَ مع الأولاد معظم الأحيان. وهكذا لَفَتَ إليه نظرَ أساتذته وزملائه الذين قالوا: هذا الولد، ابن الداموريّ (مزغلَل)، وهو يكتب الشعر. وانطلاقًا من كلمة داموريّ ومزغلَل غلب اللقب على الاسم، فصار جوزيف الهاشم الذي هو أصلاً من الدامور يُعرَف بزغلول الدامور وهو في التاسعة من سِنيه. تزوّج في سنٍّ باكرة؛ وهو زوجٌ صالح وأبٌ حنون، وجَدٌّ مُحِبّ. وزغلول الدامور "شاعر غير عاديّ، عايشَ المنبرَ الزجَليّ 50 سنة ولا يزال؛ مُحدِّثٌ لَبِقٌ، وشخصيّتُه مُميَّزة بين شعراء الزجَل اللبنانيّ. يُعتبَرُ مع الملك الشاعر موسى زغَيب قُطبا المسرح الزجَليّ على الإطلاق."(9) عاصر الزغلول الزجَل منذ بداياته، فهو من أركانَه الأوائل. ومع شحرور الوادي وخليل روكُز يقف على رأس مُثلّث العبقريّة الذي أوصل الزجَل إلى ما عليه اليوم من شُهرةٍ ورُقيّ. وخلال سنواتٍ طويلة ذاع فيها اسمُه على كلّ شَفَةٍ ولسان، غنّى الزغلول في كلّ قرية ودسكرة ومدينة في لبنان، وقام بأكثر من 120 رحلة إلى بلاد الاغتراب. ألّفَ جَوقتَه الأولى عام 1944 ورئسها، ولا يزال بلا مُنازِع. وهو مع الشحرور (أسعد الخوري الفغالي) أوّلُ مَن أرسى دعائمَ المسرح وبروتوكول الحفلة، فأَوجدَ بذلك تقليدًا كان ولا يزال مُتَّبَعًا حتّى اليوم، نَهَجَ القوّالون والشعراءُ نهجَه ومَشَوا على خُطاه؛ فكان هو طليعةَ الرُوّاد الذين غنَّوا في حفلات النوادي والقرى والمدن. وحسب التقليد المتَّبَع تتأَلَّف الجَوقة، على الأرجح، من أربعة شعراء، وغالبًا ما تتّخذ اسمَ رئيسها؛ مثلاً: "جَوقة خليل روكز"، أو جَوقة "زغلول الدامور"، أو تُعرَفُ باسمٍ آخَر يُستعمَلُ كرمزٍ للجَوقة، مثلاً: "جَوقة القلعة" برئاسة الشاعر موسى زغَيب الذي كان من أعضاء جَوقة خليل روكُز، ونظرًا لتفوّقه وقيادته تسلَّمَ زمام الجَوقة بعده. غير أنّه لسببٍ أو لآخَر لم يُسَمِّ الجَوقة باسمه. ومِثلُه فعلَ الشاعر طليع حمدان، أحدُ أفراد جَوقة الزغلول البارزين؛ فقد شكّل جَوقةً برئاسته، وسمّاها "جوقَة الربيع". والشاعر طانيوس الحملاوي أسَّسَ جَوقة "فرقة الكنار". والشاعر حنّا موسى ألّف "جَوقة الأرز". والشاعر جريس البستاني رئس جَوقة "حسّون الوادي". هذا على سبيل المثال لا الحَصر. ولكن ما من جَوقة ثبتَت وأثبتَت وُجودَها ومقدرتها على الإبداع والاستمرار كجَوقة زغلول الدامور. والواضح جدًّا أنّ السببَ الرئيسيّ والأهمّ في بروزها ودوامها والفضلَ الأوّل في صمودها وكينونتها يعودان إلى الزغلول نفسه، هذا العندليب الذي كرّس حياتَه وجهدَه لخدمة الزجَل والمنبر والدفّ. ورغم أنّه أحيا المئات من الحفلات والمناسبات، فهو أبدًا رائدُ التجديد والإبداع، لا يُعيد نفسَه، ولا يُعطي من قديمه. وفي كثير من الأحيان، خاصّةً في ليالي الصيف الجميلة في لبنان، يكون الزغلول ضَيفًا، في كلّ ليلة بدون استثناء، على منبر مختلف. وكلّ ليلة يتجدّد ويجود ويرتجل ما يليق بالمناسبة. فهو أبدًا جديد، لا إعادة ولا تكرار، ولا تقديم للقديم من أقواله. هو ككبار الشعراء فينيق يشمخُ من رماد المناسبة، ويتوهّج مع لحظة الإبداع، ويرتدي عباءةً جديدة، ويكسو شعرَه حلَّةً طريفة، ويسكبُ قلبَه أنغامًا بنتَ ساعتها، ووليدةَ الجلسة الآنيّة التي هو كوكبُها وثمرتُها المتجدّدة. وأنا عاشقٌ لشعره وتغريده، وواحدٌ من الآلاف الذين حضروا حفلاتِه وأحبّوا شعره وصوته الرخيم الذي ألهَبَ الحماس وغنّى الوطنيّةَ والحبَّ والجمال؛ وواحدٌ من الآلاف الذين بكَوا في مناسبات التأبين والنَّعي والرثاء التي دُعيَ إليها الزغلول حين يُتَوفَّى شخصٌ ما، أكان من عامّة الناس أم من البارزين سياسيًّا واجتماعيًّا. فإذا ما انتقل إنسانٌ إلى رحمته تعالى، وأراد ذَووه أن يُخلَّدَ أو يُمَجَّدَ في موته وحياته، يدعون الزغلول؛ فيحضر قبل الدفن بساعات قليلة، ويسأل أهلَ الفقيد عن اسمه واسم زوجته وأولاده ومكانتِه الاجتماعيَّة، وهل له أبناء في دنيا الاغتراب، ثمَّ يقف أمام مُكبِّر الصوت مُرتجلاً قصائدَ النَّدْب والرثاء بصوته العذب وكلماته التي تدخلُ القلوبَ والآذان بدون استئذان، والناسُ حوله مُجتمعون. فتدمعُ العيون، وتميدُ الأكتاف، وتبكي، على حدّ قَول العامّة، حجارةُ البيوت والكنائس، وتتأوَّه مآذنُ الجوامع تجاوُبًا مع كلماته وألحانه وأبياته. وإذا ما كانت المناسبة عُرسًا أو تجمُّعًا وطنيًّا، تراه يصدحُ ويغنّي مجدَ لبنان وخلودَ الوطنيّة وأعمالَ رجالات الحُكم، فتنتشي الجماهير، وتعتزُّ الحشود بوطنيّتها وتراثها وبالمآثر المجيدة.
في كلّ بقعة من أرض لبنان المقيم والمغترب له جمهور، وله أتباع ومُحبّون ومُعجَبون. شهرتُه فاقت جميع الشعراء، وأصبح اسم الزغلول صِنْوًا للزجَل والدفّ والمنبر والارتجال. فلبنان كما أرزُه وصنِّينُه وبحرُه كذلك زغلولُه. وغيُر صحيح أنّ العالَم العربيّ لا يتذوّق الزجَلَ اللبنانيّ نظرًا لاختلاف اللهجات المحلِّـيَّة فيه. هذا من الأوهام. فمثلما يعشقُ العربُ عامّةً، وعلى اختلاف لهجاتهم المحلِّـيَّة والإقليميّة، طَرَبَ أُمّ كلثوم وصُداح فريد الأطرش ومحمّد عبد الوهّاب وعبد الحليم حافظ وتغريدَ فيروز ووديع الصافي والشُحرورة صباح وسمير يزبك ونصري شمس الدين، كذلك هم يحبّون شعرَ الزغلول، ويعشقون صَوتَه، ويعجَبون لارتجاله.
الزغلول صوتُ كلّ لبنان
ومُؤَسِّسُ المدرسة الزجَليّة الأُولى
فمنذ عام 1953_وكان قد مرّ عَقْدٌ كاملٌ على تأسيس الزغلول لجوقَته_قام بأوّل رحلة إلى بلاد الاغتراب، إلى البرازيل بالتخصيص، وهو بعدُ في الثامنة والعشرين من عمره. قضَّى هناك أربع سنوات مُتنقّلاً بين الجاليات اللبنانيّة العديدة. كان ذلك بدايةً لرحلاته السندباديّة وبدايةً أيضًا لصَيرورته سفيرًا فوق العادة للبنان الذي غنّاه الزغلول في كلّ بقعة من الكُرة الأرضيّة حيث يُقيمُ لبنانيّون أو عَرَب على الإطلاق، فاستحقّ عن جدارة لَقَب "سندباد الزجَل" و"سفير لبنان إلى بلاد الاغتراب". وعلى سبيل المثال نُذكِّرُ هنا ببعض البلدان التي قَبِلَ الزغلول دعوةَ أبنائها المهاجرين، فزارهم وغنّى لهم، وحملَ معه نسيمَ لبنان وبعضًا من شَذاه. حطَّ في إفريقيا وأوروبّا والأرجنتين وأوستراليا وكندا وأمريكا الشماليّة والجنوبيّة والمكسيك، وغرّد في الكُوَيت والأُردنّ وسوريا ومصر والإمارات العربيّة المتّحدة والسعوديّة وغيرها. ويكفي الزغلول فخرًا أنّ عمالقةَ الارتجال غنَّوا معه في جَوقته، أمثال خليل روكُز وزَين شعَيب وطليع حمدان وإدوار حرب وجان رَعد وأسعد سعيد، والآن سمير عبد النّور وفايز المغربي وغيرهم. هذا إضافةً إلى العشرات من أرباب الزجَل الذين التَقَوا مع الزغلول وغنَّوا برفقته أو تبارَوا معه في حفلات التحدّي. ويبقى أن نذكرَ هنا أنّ لقاءَ الزغلول مع الشاعر موسى زغَيب هو دائمًا قمّةُ اللقاءات؛ فكلاهما صاحب موهبة فذّة، وكلاهما سيّدُ المنبر وله جمهورُه الغفير ومُحبّوه الكثيرون. ومُباراةُ التحدّي بينهما لها نكهتُها الخاصّة وصداها البعيد وعمقُها الأصيل. والزغلول أوّلُ مَنْ أرسى قواعدَ الزجَل، ووضعَ قوانينَ الحفلات، ونظّمَ أُصولَ الجَوقة وسهرةَ الزجَل. هو بحقٍّ مُؤَسِّسُ المدرسة الأُولى ورئيسُها ومُديرُها وأُستاذُها؛ وعلى يدَيه تخرّج العشراتُ من الشعراء الكبار الذين عرفوا الشُهرة، لأنّهم كانوا أعضاءً في جَوقة الزغلول، أو لأنّهم غنَّوا معه أو قلّدوه من بعيد. وهو أوّل مَن طالبَ، منذ بداياته، بإدخال الموسيقى إلى المسرح لمُرافقة الشعراء ومُواكبة الصوت بالنغَم. علمًا بأنّه الوحيد الذي ليس بحاجة إلى ذلك؛ فصوتُه أَشبهُ بأُوركسترا، ووحده قادرٌ على بَثِّ أنغامٍ لا يُصدرُها سواه من الشعراء. وأصبح برنامجُ السهرة الزجَليّة تقليدًا زغلوليًّا مُتَّبعًا وشائعًا منذ بدأَه شحرور الوادي وقَونَنَه الزغلول وكرّسَه وأضاف إليه.
تجلس الجَوقةُ الرباعيّة على المنبر من اليمين إلى اليسار، مثَلاً، هكذا: الزغلول (رئيس الجَوقة)، بجانبه ثاني الشعراء مركزًا، زَين شعَيب (أبو عَليّ)، ثالثًا طليع حمدان، رابعًا إدوار حرب. وهذا الترتيب مفروض بحسب مقام الشاعر في الجَوقة. يُمكن أن تختلفَ الأسماء وتتبدّل الشخصيّات، لكنّ المراكزَ حسب ترتيبها تبقى كما هي. يُرافق الشعراءَ صوتُ الدفّ والدربكّة والمزمار وأحيانًا العود. ويجلسُ الردّادون وراء الجَوقة يُعيدون اللازمة مرّتَين بعد أن يُنشدَها الشاعر. وحسب الأُصول المتَّبعة يفتتحُ رئيسُ الجَوقة (الزغلول) الحفلة بعد مقدّمة موسيقيّة. وتكون القصيدةُ الافتتاحية مُستَوحاةً من المناسبة التي من أجلها أُقيمَت الحفلة. يتبع ذلك "قرّادي" من بيتَين يرتجلُه رئيسُ الجَوقة أيضًا، ويبني عليه ردّةً أُخرى تستوجب جوابًا. فيُجيبُه عادةً الشاعرُ الثاني الجالس بجانبه؛ ويتساجلان معًا. ثمّ يُشاركُ في القَول الشاعران الآخَران كلٌّ بدوره في ردّات تجمعُ بين أعضاء الجَوقة جميعهم، وتستمرُّ حوالى ربع ساعة. بعدها ينطلق رفيقُ رئيس الجَوقة بردّة من أربعة أبيات تنتهي بهجوم أو سؤال مُوجَّه إلى رئيس الجَوقة. وحسب هذه الردّة التي هي من نوع "المعنّى" يتحدّد موضوعٌ معيَّن يتبارى فيه الرئيسُ والشاعر الثاني، كلٌّ يُدافع عن مَوقفٍ يكون قد اختاره، ويشرعُ في إظهار مزاياه وأهميّته وتفوُّقِه على موقف الشاعر الآخَر. وينتهي هذا السجالُ بقصيدةٍ لكلًّ منهما. ثمّ ينتقل الكلام إلى الشاعرين الآخرَين، فيتَّبعان الترتيبَ نفسَه في اختيار موضوعٍ آخَر، وكلٌّ يتبنّى وِجهةَ نظرٍ مُغايِرة، ويصولان ويجولان في إظهار حسناتها وتبيان سيّئات وِجهة النظر التي اختارها الشاعرُ الآخَر، وينتهي دورُ كلٍّ منهما أيضًا بقصيدة تُظهر محاسنَ الموضوع المختار، وتدعمُ بالحُجَج والبراهين المستمَدّة من الحياة والأدب والعِلم والدين والسياسة ضرورةَ اتّباع ما اختاره من موضوع، وتطلب من الجمهور أيضًا التأييدَ والدعم لرأي الشاعر ومُناصرته ضدّ خَصْمِه. والجمهور يُصفِّق مُفضِّلاً شاعرًا على آخر. وفي أحيانٍ كثيرة يطلبُ أحدُ الحاضرين من الشاعر إعادةَ ردّة معيّنة أو مطلعٍ معيّن بقوله: "عيدْها" أو "عيدْها وزيدْها"؛ وهذا يستَوجب من الشاعر ، لا إعادة الردّة فحسب، بل تغيير مطلعها أيضًا، وذلك بارتجال بيتٍ أو بيتَين آخرَين على نفس الوَزن والقافية للردّة المطلوبة. وبعد ذلك يأتي دَورُ الغَزَل حيث يقول أحدُ الشعراء—عادةً رئيس الجَوقة أو شريكه—مَطلعًا غزَليًّا من باب "الموَشَّح" ينتهي بلازمة ذات قافية معيّنة. مثالُه قَول الزغلول:
بَيتِك قرميدو ضلوعي
وعن عَيني بْعِيدْ
وبِغيابِك صارو دموعي
بْلَونِ القرميدْ
ويُشارك الشعراءُ الأربعة بردّاتٍ تَستعملُ جميعًا القافية ذاتهاَ التي بدأَ بها الموشَّحُ الأوّل. وبعد هذه الوَصلة الغزَليّة يختتم رئيسُ الجَوقة الحفلة بقصيدة يُشيدُ فيها بمكان الحفلة هذه ويشكر الحضور، ويُثني على القائمين بأُمور الحفلة ومُؤيّديها وأنصار الجَوقة، ويتمنّى لقاءً آخر قريبًا مُذكِّرًا إيّاهم بأنّه سيترك قلوبَ الشعراء الأربعة مع الحاضرين على أمل اللقاء القريب بهم في جلسةٍ أُخرى. هذا إذا كانت المناسبة حفلةً عاديّة. أمّا حفلاتُ التحدّي فلها نَمَطٌ آخر نأتي إليه حين نبدأ بتحليل لقاء الزغلول وموسى زغَيب في حفلة بيت مِري الشهيرة.
وقد طُلِبَ إلى الزغلول، بفضل شعبيّته الفائقة، أن يترشّحَ للتمثيل النيابيّ في مجلس النوّاب اللبنانيّ؛ فرفضَ بلباقة بقَوله إنّه محبوب الآن من قِبَل كلّ الناس، فلماذا اعتناق السياسة "ليُكرِّهَ الناس فيه". والزغلول معروف بتواضعه وقُربه من الناس وتقرُّبه منهم. ففي كلّ بلدة في لبنان وفي كلّ مدينة في بلاد الاغتراب له "مفاتيح"، أي ناسٌ معيّنون يكونون طليعةَ مَن يتّصلُ بهم أو يزورُهم حين يُدعى إلى منطقةٍ ما؛ وهو يعرفهم من أصواتهم، ويعرف أسماءهم واحدًا واحدًا. فذاكرتُه عجيبةٌ حقًّا، وهذا أمرٌ طبيعيّ عند شاعر تُطيعه القوافي وتنامُ بين يدَيه. وفي لقاءٍ معه في برنامجٍ خاصّ على شاشة "صوت العرب"(10)، انهالت عشراتُ المُكالمات التلفونيّة من مختلف أقطار العالم للكلام مع الزغلول والسلام علَيه ودعوته للزيارة، لتُحيّيه وتشكرَه وتتمنّى له الصحّة والعمر المديد. وكان هو يعرفُ صوتَ المتكلّم، قبل أن يُعرِّفَ عن نفسه، بمجرّد أن يذكرَ اسم البلَد الذي هو منه؛ وذلك للعلاقة الحميمة بين الشاعر والمغتربين. وراح المتّصلون به يُطلقون عليه ألقابًا مختلفة، منها "أمير الشعر"، و"الشاعر الزجَليّ الأوّل"، و"سيّد المنبر"، وغير ذلك. وكان هو يخجل من كلّ هذا، ويُبدي عدمَ ارتياحه لكلّ هذا الإطراء، ويقول بتواضع وحياء: "هذا من عَطْفِ المحبّين والأصحاب." ويُضيف: "الله أعطانا لنُعطي". وجوابًا عن سؤال قال: "أنا منصرف إلى المسرح كلِّـيًّا، ولا وقتَ عندي لجَمعِ كلّ قصائدي."
لا يُمكننا جَمْعُ العِطر في قارورة واحدة
من المؤسِف حقًّا أن نكونَ قد خسرنا كثيرًا من القصائد، فإمّا تكون قد فُقِدَت أو ارتجلها الزغلول في مناسبة معيّنة ولم يُدوِّنْها أحدُ الحاضرين، أو ربّما لم يُسجّلْها أحدُهم على شريط؛ والزغلول مُدركٌ تمامًا أنّ كثيرًا من شعره قد ضاع. فهو لم يهتمّ بجَمع كلّ قصائده منذ البداية، ودائمًا كان في حفلات أو على سفَر؛ وأولادُه "مشغولون بعملهم"؛ علمًا بأنّه أَسّس مطبعتَين، وأصدر مجلّة "المسرح" عام 1958، فكانت لحوالى 25 سنة مرجعًا لعُشّاق الزجَل وأصحابه وشعرائه. ومُؤخَّرًا صدرَ له كتابُه الذي طالما انتظرَه مُحبّوه "خمسون سنة مع الشعر الزجَليّ". وكان قد أصدر، في عام 1958، كتابَه الأوّل تحت عنوان "المرج الأخضر". والزغلول يُدرك تمامًا أنّ الشاعرَ الزجَليّ أو شاعرَ الارتجال يقول ردّتَه ويمشي؛ فهو لا يحفظ كلَّ ردّة أو قصيدة يقولها، ولا هو يُريد أن يتذكّرَ معظمَ ما يقوله حتّى لا يقعَ في شِباك التكرار وعدم التجديد. وأثناء المقابلة التليفزيونيّة المشار إليها سابقًا، كثيرًا ما طلبَ إليه المتّصلون إلقاء قصيدة أو ردّة مُعيّنة كان قد قالها سابقًا؛ فكان جوابُه أنّ الشاعرَ لا يتذكّر كلَّ ما يقولُه في معظم المناسبات. "الشاعر يقول وينسى"، لأنّ شعرَه ارتجال وابنُ ساعتِه. أمّا الجمهور فيتذكّر هذه الأقوال لأنّه يروح يُردّدُها مرةًّ بعد مرّة، فتبقى عالقةً في ذاكرته لوقت طويل.
واضحٌ أنّه ليس من المُمكن أن تُجمَعَ كلُّ أقوال الشاعر الارتجاليّ إلاّ إذا كان معه راوٍ أو كاتب يُرافقه على الدوام ، أو آلةُ تسجيل في جيبه. وكلا هذَين الأمرَين مستحيل. فشاعرُ الزجَل مِثلُ الوردة يفوحُ عطرُها بدون انقطاع، ولا يمكنُك أن تجمعَ كلَّ العِطر في قارورة واحدة. وأُعطي مثالاً على ذلك من حياة الشحرور. الردّة أو القصيدة التالية لن تعثرَ عليها في أيّ مكان في كتاب "شحرور الوادي أسعد الخوري الفغالي: الديوان الكامل" أو بين أوراق الشحرور الخاصّة، أو حتّى بين القصائد التي جُمِعَت بعد وفاته، لأنّها قصيدةٌ ارتجلها بنتَ ساعتها، كمئات القصائد الأخرى التي قالها الشحرور في لحظة معيّنة ونسيَها بعد فترة وجيزة، فكأنّها ما كانت إلاّ إذا احتفظ بها مَن حضَر أو مَن قيلَت له أو فيه.
كان والدي من عُشّاق الزجَل ومِمّن عاصروا الشحرور وتَبعوه إلى كلّ حفلة أقامها؛ فقامت بينهما مودّةٌ خاصّة. وكان والدي أيضًا "مُتعهِّدًا" يُقدّم الحجارة لبناء البيوت وعنده "مقالع". وفي أحد الأيام انفجر قربه "لَغْمُ" الديناميت، فكُسرَت يدُه اليُمنى، وأُصيب بالعَمى (مؤقّتًا)، ثمَّ استعاد نظرَه بعد شهرَين من الحادثة. وحصل أن سمع الشحرور بهذا الأمر، فصعد إلى المنصوريّة- المتن لزيارة والدي، نقولا الحاجّ، والاطمئنان عنه. قرعَ الشحرور الباب؛ ففتحَت له جدّتي. وحين شاهد الشحرور صديقَه جالسًا أمامه معصوبَ العَينَين، أخذ قُبّعتَه بين يدَيه، وارتجل التالي وهو واقفٌ على عتبة الباب ، قال:
بصرْت مَنام منه القلب دامي
وعدْت إمسحْ دُموعي بكمامي
شفْت البدر بالقبّة العَلِيّة
نورو شحيح عا وجهو غمامي
نون قاف واو [جمَعتْهُنْ] سَوِيّة
وألف لام تمّت لي العلامي
"نقولا" بجانب الصخرة القويّة
ومنْ نِصّها انفجر بارود حامي
قمت صلّيت فَرْضي بطيب نِيّه
إلاّ ورفرفت فَوقي حمامي
تقلّي قومْ يا أسعد هنيّه
الحاجّ مليح لا تعطَلْش همّو
رجِع لِمَيمتو بصحّة وسلامي.
وطلب والدي من الشحرور فَورًا إعادة هذه الأبيات مرّةً أخرى وحفظها عن ظَهْر قلب. وكان يُردّدها فخورًا بعلاقته الحميمة مع الشحرور. وهكذا حفظتُها أنا، لأنّي سمعتُه يُردّدُها مرارًا أمام الزائرين. لا شكّ بأنّ هذه واحدة من مئات الردّات والقصائد غير المدوّنة. وفي رأيي أنّ هذا المثال ينطبقُ على كلّ الشعراء الزجَليّين.
ويكاد الزغلول أن يقفَ وحيدًا بين شُعراء المنبر الكبار الذين يعتنون بصحّتهم، ولا يُفرطون في الشراب والطعام. فهو لا يُدخِّنُ، ولا يشربُ القهوة، ولا يتعاطى الخمرة—وهذا أمْرٌ فريد لأنّ من تقاليد الزجَل أن توضَع المائدة أمام الشعراء وعليها "المازوات" والعرَق. فحفلة الزجَل مناسبةٌ اجتماعيّة. حتّى إنّ الجمهورَ يأكل ويشرب العرَق ويستمع إلى الزجَل في آن. قليلون هم الذين يعرفون أنّ الزغلول لا يشرب العرَق وهو يقول الشعر، فالذي أمامه كأسُ ماء فقط. وإن دلَّ هذا على شيء، فعلى أُصوليّة المَوهبة التي خُصَّ بها زغلول الدامور؛ فهو أبدًا حاضرُ البَديهة، وليس بحاجة إلى مُنبِّهات ولا مُسكِرات. "بِسْكَر من عطْف الجمهور ومن جمال الحاضرين،" على حَدِّ قَوله.
وأخيرًا تنبَّهت الحكومةُ اللبنانيّة إلى أنّ الزغلول قد أصبح في وجدان اللبنانيّين جزءًا لا يتجزّأُ من تُراثهم، وأدركَت أنّ جيلَنا الآن هو جيل الزغلول. فنحن رَبينا على صوته وتغذَّينا بأشعاره وأبياته. إستقبلناه في بيوتنا وفي كلّ ساحة من قُرانا. بنَينا له منبرًا ملأَه الزغلول مع جوقته بصُداحهم ومُوشّحاتهم. ففي عام 1974 قدّم له الرئيس سليمان فرنجيّه وسامَ الاستحقاق اللبنانيّ. ومُؤخَّرًا كرَّمَه نادي "ديوان الكلمة" في حفلةٍ كُبرى رعاها الرئيس الياس الهراوي. وألقى الشاعر موسى زغَيب قصيدةً في هذه المناسبة. يبقى أن يُعيدَ لبنان الرسميّ النظر في مَوقفه من الزجَل الذي هو تراثنا وجزءٌ لا يتجزّأُ من هُوّيتنا، فتعمد الحكومةُ إلى تقريره في المدارس جزءًا من المنهج الدراسيّ المُقرَّر للأدب العربيّ. والواقع أنّ لبنان الشعبيّ قد فاق الحكومة في تقبُّله لهذا الشعر الجميل الذي تراه يُعبّر عن أحاسيسنا وأفراحنا وأتراحنا أصدقَ تعبير في أُسلوبٍ عفَويّ ولغةٍ يفهمُها الجميع، مُقرَّبةٍ من قلوبنا وعاطفتنا وشخصيّتنا العربيّة اللبنانيّة الفريدة.
نصفُ قَرنٍ ونيِّف مضى والزغلول مُمعِنٌ في النشيد، يتجدّدُ كالربيع، يُغنّينا ويُغنّي لنا عشرات الآلاف من القصائد والأبيات، نظمَها وارتجلها. وصدقَ حين قال في افتتاحيّته في حفلة التحدّي مع الشاعر المعروف السيّد محمّد المصطفى:
وما بين الشرق والغرب ووطنَّا
إذا شِعري انوَصَلْ رَدّي بْرَدّي
بِبْني جِسر أبيض للمعنّى
من الزنبق من الزهر المنَدّي.
حفلةُ القلعة
كلُّ عمالقة الارتجال، كما ذكرنا، غنَّوا برفقة الزغلول وتحت رايته، أو تمنَّوا أن يتبارَوا معه في حفلة تحَدٍّ فرديّة. وكثيرةٌ هي حفلات التحدّي التي خاض الزغلول غمارَها، وحضرَها الآلاف من عُشّاق شعره خاصّةً وعُشّاق الزجَل الشعبيّ عامّةً. ولكن يبقى لقاؤه مع الشاعر الكبير موسى زغَيب تاجَ هذه الحفلات. فكلاهما صاحبُ موهبة فريدة، وكلاهما يتمتّعُ بطول النَّفَس وعُمق المعاني والقُدرة العجيبة على استحضار القوافي الصعبة واصطياد الأفكار الراجحة واستلهام اللحظة وإلهاب الحماس في قلوب الجماهير الغفيرة المحتشدة. موسى زغَيب الملقَّب بـ"المَلِك"، وُلِدَ في حراجل عام 1937. واعتلى المسرح حين كان في السابعة عشرة من عمره، وظلَّ رفيقَ الشاعر خليل رُوكز حتّى وفاة هذا الأخير عام 1962. وبعده رئس جَوقة "خليل رُوكز"، ثمّ غيّرَ الاسم إلى "جَوقة القلعة" التي لا يزال رئيسَها. ويُعتبَر موسى زغَيب القُطب الأكبر في مُباريات التحدّي بين الفِرَق الزجَليّة في لبنان؛ وهو يختار خصومَه برويّة، ولا يقبل النـِّزال مع أيٍّ كان. وتقديرًا لجهوده وشعره المميَّز منحَته الحكومةُ اللبنانيّة وِسامَ الاستحقاق اللبنانيّ عام 1973، "لِنَشرِه رسالةَ التُّراث اللبنانيّ في لبنان وجميع بلدان الاغتراب." ويتميّزُ شعرُ زغَيب بالعمق والصعوبة؛ فهو إنّما "ينحتُ من صخر"، مُقارَنًا مع الزغلول الذي وكأنّه "يغرف من بحر" لسلاسة تدفُّقه وسهولة انسياب أبياته وأُسلوبه السهل المُمتنِع. وموسى زغَيب خصمٌ عنيد وجبّارٌ صنديد يُحسَبُ له ألفُ حساب على المنبر. حصلَت عدّةُ لقاءات بين جَوقته وجَوقة الزغلول في المُشرِف وشتورا والمدينة الرياضيّة ومَيروبا والمتَين وعدّة أماكن أُخرى في لبنان وخارجه. ولكن مهما قيل، ومهما يُقال، تبقى حفلةُ التحدّي الكبيرة التي جرَت بينهما في بيت مِري الأنجح والأبقى على مَرّ الأيام. ورغم تعدُّد اللقاءات قبلها وبعدها، ففي رأيي، كما في رأي كثيرين من مُحبّي الشعر الزجَليّ ومُرافقي شُعرائه وحفلاته الذين تكلّمتُ معهم أو الذين لم يحضروا الحفلة هذه، بل سمعوا تسجيلاً لها، وبرأي هؤلاء الذين اتّصلوا يإذاعة "صوت العرَب" يوم استضافت الزغلول، وكذلك في رأي معظم النقّاد، تتميّزُ حفلةُ بيت مِري بتفوُّق جميع الشعراء الذين غنَّوا ليلتَها حتّى الصباح. موسى نفسه أقرَّ بذلك. والزغلول صرَّح بأنّ حفلات التحدّي العديدة التي جرَت بينه وبين موسى قبل بيت مِري وبعدها "ما أخذت الصدى مثلها". فالضجّة والشهرة التي اكتسبتهما "مهرجانات القلعة"_مثلما تُعرَف أيضًا_ فريدة في لقاءات الفِرَق الزجَليّة؛ وهي تُذكِّرُنا بسوق عُكاظ يومَ كان النابغة الذِّبياني حَكَمًا بين الشعراء المتبارين. ويُضيف الزغلول أنّ هذه الحفلة "جمعَت لبنان كلَّه... وكانت قبل الأحداث...حضرها حوالى أربعين ألف خليقة... ودام اللقاء حتّى الخامسة صباحًا، والناس لا تريد أن تذهب إلى بيوتها... ورغم العشرين حفلة تقريبًا غيرها ، فحفلة بيت مِري لا تزال الأهمّ."
في حفلة بيت مِري، ولسببٍ أو لآخَر، نزلَت إلاهةُ الشعر وحلّت بين الشعراء. ليلتَها تفتّحَت قرائحُ المُتبارين فأعطَونا أجملَ ما عندهم من شعر. الفرسان الثمانية من الجَوقتَين كانوا في أوج مجدهم وذروة عطائهم. جميعُهم أجادوا وجادوا، جميعُهم تفَوّقوا وفاقوا. ولا أظنُّ أنّ أحدَهم ربح، وآخرَ خَسِرَ الجَولةَ الشعريّة. فحتّى لجنة التحكيم بقيَت مبهورةً مشدوهةً لِما سمعَت من شعرٍ وكلامٍ رفيع. كلُّ الذي قيل في حفلة "القلعة" كان شعرًا. ليلة 21 تمّوز من سنة 1971 كانت ليلةً انتصر فيها الشعرُ على ما دون الشعر، ولمعَت نجومُ الشعراء الثمانية في الجَوقتَين. جَوقةُ الزغلول كانت تضمُّ، بالإضافة إلى رئيسها، زَين شعَيب وطليع حمدان وإدوار حرْب؛ وجوقةُ القلعة ضمَّت إلى موسى زغَيب أنيس الفغالي وجريس البستاني وبطرس ديب. جميعهم غنَّوا شعرًا استثنائيًّا في تلك الليلة الاستثنائيّة. يبقى أنّ ما قاله الزغلول وموسى ليلتَها في لقاء "النسور والصقور"، في المجابهة المريرة والتحدّي العنيف واللقاء الصعب بين الاثنَين، وضعَ حدًّا جديدًا لمستوى شعر الارتجال، لم يبلُغْهُ الشعراء من قبل، ولا هم ولا غيرهم توصّلوا إليه منذ ذلك الحين. فأنت لو سمعتَ أو قرأتَ ما قيل في لقاءاتٍ أُخرى بينهما، لعرفتَ يقينًا أنّ حفلة بيت مِري كانت قمّةَ الحفلات وسيّدةَ اللقاءات، وأنّ الشعرَ الصافي الذي ارتجلوه أثناءها يبقى درّةَ العقد الفريد. يومَها أعطونا لؤلؤًا وجوهرًا يُرصِّعُ تراثَنا الشعريّ المجيد، ويقف كتفًا على كتف بجانب أَيَّة قصيدة فُصحى حَوليّة أو غير حوليّة فاضَت بها قريحةُ ألمعِ شعرائنا الكبار.
يُؤكّد الزغلول أنّ الشعر الزجَليّ الارتجاليّ من "أصعب الشعر"؛ فالشاعر الموهوب الطويل الخبرة في معانقة القوافي والأوزان وحدَه يستطيع، وبجهدٍ كبير، الغناءَ مع هؤلاء المتفوّقين، هؤلاء الشعراءِ المحترفين الذين كرّسوا حياتهم للارتجال، فأَطاعَتْهم القوافي. ولا يُنكِر الزغلول أنّ الخبرةَ الطويلة أيضًا ومُباراة الشُعراء الكبار، إضافةً إلى الموهبة الحقيقيّة، تُساعدان على إنتاج الشعر الأصيل. ويقول الزغلول: "الممارسة تفرض الاستمراريّة، لا خَوف على الزجَل من بعدي... فالزجَل لن ينقرض... المواهبُ الجديدة موجودة دائمًا، وشعراءُ الفطرة كثيرون، وسيستمرّ الزجَل بعدي ولا خَوف عليه..." لكن مَن برأي الزغلول هو الآن على المستوى المطلوب للتحدّي؟ يُجيب: "شعراء كتار". لكنَّه يُسمّي ثلاثة منهم: أوّلهم الشاعر موسى زغَيب، ثمّ شريك الزغلول ورفيق طريقه الطويل، زَين شعَيب، الذي يكنُّ له الزغلول مودّةً خاصّة واحترامًا كبيرًا، ثمّ الشاعر الغرّيد طليع حمدان الذي غنّى في جَوقة زغلول الدامور سنواتٍ عديدة، وكان من البارزين الذين عُرِفوا في حفلة بيت مِري. وهل يمرُّ الشاعرُ الزجَليّ بمرحلة "جَفافٍ شعريّ"؟ "نادرًا وليس غالبًا" يقول الزغلول. فشاعر الارتجال حين يعتلي المسرح يكون دائمًا في "حالة تَجَلّي". المنبر خشبةُ الانبعاث والتجدُّد، ومواجهة الجمهور هي دائمًا مُجابَهة مع الارتجال، ومِحَكٌّ للعبقريّة. الجمهور هو رأسُ النبع، نبعُ القَول وسببُ الفَيض، ونهاية الغيض. الجمهور يُحرّك الحواسّ والإحساس، ويشحذ الموهبة. والشاعر المنبريّ يكون في حالة "انتقال" وهو على المسرح. هو يستلهمُ المناسَبة، والمناسبَة أبدًا جديدة ومُبهِجة ومُلزِمة في آن. الحماس يفتحُ مزاريبَ العبقريّة، ويُفجِّر مكامنَ العطاء الشعريّ، ويُلهِمُ الزجّال بأبياتٍ وأفكارٍ وردّاتٍ فطريّة وقصائدَ عفَويّة. الشاعرُ الكبير لا يخاف من مُنافِسٍ كبير، بل هو يتمنّاه ويطلبُه إلى ساحات الغناء والتحدّي. لذلك يجود الزغلول دائمًا مع موسى زغَيب. المواجهة بين شاعرَين مُبدعَين "تُفجّر الموهبة"، كما يقول الزغلول. والحوارُ بينهما يتجدّدُ ويتسامى بقدر ما يجودُ به خصمٌ على خصمه.
وهنا لا بُدّ من مواجهة سؤال مُهمّ يطرح نفسه، ولا يسعُ الناقد الجادّ إلاّ معالجته. والسؤال هو التالي: تُرى هل قصائد هؤلاء الشعراء كلُّها عفويّة، أم إنّ بعضها من مخزونات الذاكرة المعتمِدة أساسًا على سرعة البديهة والقدرة على استحضار هذا المخزون اللُغويّ بصورة سريعة وتلقائيّة؟
الجوابُ على هذا السؤال يستوجبُ الدخول في موضوعَين أساسيَّين:1- عُمْقِ المَوهبة الشعريّة وأصالتِها. 2- مدى ثقافةِ الشاعر الزجَليّ العامّة واستيعابِه لتُراثه الوطنيّ كما للتُراث العالميّ، ومدى التزامِه قضايا إنسانيّة عامّة. وفي اعتقادي أنّ لحظة الارتجال هي وليدة العفويّة أوّلاً، ثمّ يرفدُها بُعْدُ التجربة الشعريّة والاستعدادُ الذهنيّ.
لا شكّ بأَنّ الموهبة لها الدور الأساسيّ في عمليّة الارتجال، ولكن لا يمكن أن نُنكرَ أهميّة الثقافة والاطّلاع الواسع على التُراث، والتحضير الدائم لموضوعاتٍ وأفكار ورموز يتعمّق الشاعر في دراستها وفهمها، فتبقى عالقةً في ذِهنه، ممتثلةً في ذاكرته، حاضرةً في مخيّلته، يستعيدها ساعةَ يشاء. هذا إضافةً إلى أنّ شُعراء الزجَل، عامّةً، يعرف بعضُهم بعضًا معرفةً جيّدة، ويعرفُ كلٌّ منهم أيضًا شخصيّةَ الشاعر الآخَر، "المُنافِس" أو "الرفيق"؛ يفهمُ أُسلوبَه ونهجَه ولغتَه وما يمكن أن يستعملَه من رُموز أو يتطرّق إليه من موضوعات. لذلك تراهم يستعدّون لها سَلفًا ويترصّدونها.
وفي مُناسباتٍ كثيرة حين كنتُ أُسافرُ في أيّام الصيف البهيجة قاصدًا مصايفَ مختلفة في جبل لبنان كنتُ أَرى مرّاتٍ ومرّات سيّاراتِ الشعراء الزجليِّين متوقِّفةً عند سهلٍ أو هضبةٍ أو نبعةِ ماء أو بستانٍ يانع قرب الطريق العامّ، وواحدُهم يروح ويجيء مُهَمهِمًا مُردّدًا، ناشدًا بصوتٍ مُنخفض، أو شاردَ الذهن والأفكار، يصطادُ المعاني، ويُخزِّن القوافي إمّا لحفلةٍ مُقبلة أو للقاءِ تحدٍّ قادم.
***
يبقى أنّ الشعرَ الزجَليّ، كشقيقه الشعر الفصيح، قادرٌ على الترفُّع إلى مُستوى القِيَم الإنسانيّة الخالدة من حيث تطرُّقه إلى موضوعات عامّة وشاملة تفرض بقاءَها في كلّ مناسبة، وتسمو فوق عوامل الزمان والمكان، لأنّها تُعالج قضايا تتعلّق بشعور الإنسان ومصيره الكَونيّ إن من ناحية الوطنيّة والتضحيات والكرامة أو من ناحية الأبديّة والموت والحياة والحُبّ والجمال، خاصّةً إذا استطاع الشاعرُ الزجَليّ—كالزغلول وموسى زغَيب مثلاً—أن يحتويَ ثقافةَ عصرِه ويتحسّسَ المآسي الإنسانيّة الشاملة.
المراجع:
1- "روائعُ الزجَل"، إعداد أَمين القاري (طرابلس- لبنان: جرُّوس برِسّ، الطبعة الأُولى، 1998)، ص 5.
2- المرجع السابق نفسه.
3- موسى زغَيب، "قلَم ودفّ"، الطبعة الأُولى (لبنان: شركة الطبع والنشر اللبنانيَّة، 1992)، ص 5.
4- المرجع السابق نفسه.
5- روائعُ الزجَل"، ص 5.
6- أنظر، مثلاً ، المرجعَين السابقَين، ص 5.
7- "روائعُ الزجَل"، ص 29.
8- زغلول الدامور (جوزف الهاشم)، "خمسون سنة مع الشعر الزجَليّ- الديوان الأَوَّل" (بيروت، الطبعة الأُولى، 1995)، ص4.
9- "روائعُ الزجَل"، ص 462-463.
10- مُقابلة مع الزغلول. راديو وتليفزيون العرَب(ART) ، برنامج آلو بيروت، تقديم ميراي عيد، 21 آذار 1989. وقد استقَينا كثيرًا من المعلومات عن الزغلول من هذه المُقابلة.
وزغلول الدامور في بيت مِري
تمهيد:
يوم غنّى شاعرُ لبنان الزَّجَليُّ الأوّل، زغلول الدامور، في نيويورك في 10 نيسان 1998، وما استطعتُ حضورَ الحفلة الكبيرة لظروفٍ طارئة— يومَها أرسلتُ رسالةً قصيرة مع صديقي جيم يَمّين وسألتُه تسليمَها للزغلول. فيها عرّفتُه بنفسي وطلبتُ أن يُرسلَ إليّ، بعد عودته إلى لبنان، نسخةً من كتابه الجديد "خمسون سنة مع الشعر الزَجَليّ" الذي سمعتُ أنّه أَصدرَه مُؤخَّرًا في بيروت. وما كان أَكبرَ دهشتي عندما عاد صديقي حاملاً نسخةً من الكتاب مع إهداءٍ بخطّ الزغلول نفسه. إهداءٌ عاديّ فيه يقول الشاعر: "يُشرِّفُني أن أُقدّمَ لك كتابي هذا، الديوان الأوّل بعد [خمسين] سنة من النضال في سبيل هذا الفنّ اللبنانيّ الأصيل الذي نذرتُ نفسي لخدمته. أرجو بعد أن تكتبَ لي عن أشعاري وزَجَلي بأن تُرسلَ لي ما سوف تكتبُه على هذا العنوان: زغلول الدامور-البوشريّة -الدورة -لبنان". ووقَّعه بإمضائه الخاصّ، ووضعَ التاريخ.
بعد قراءة هذه المقدِّمة القصيرة، استوقفَتني أمورٌ ثلاثة:
1- هذا إنسان رهَنَ حياتَه ووقتَه وجهدَه، وكرّسَ عمرَه—"خمسون سنة من النضال في سبيل هذا الفنّ اللبنانيّ الأصيل"—ولا يزال يجوب الأقطار، قريةً ومدينةً وبلدًا، يقطع البحار ويُغنّي الحُبَّ والوَطن للمُقيمين والمغتربين على السواء.
2- كنتُ قد ذكرتُ في رسالتي للزغلول أنّي أَودُّ الكتابة عن الزجَل عامّةً وعنه وعن حفلة بيت مِري عام 1971 خاصّةً. فإذا بكلمته تُشجِّعُني على ذلك، لأنّنا فعليًّا بحاجة ماسّة إلى دراساتٍ ونَقْدٍ وكتاباتٍ ليس لتأريخ الزجَل فقط، بل لتحليل قصائده الرائعة التي تُعتَبَرُ من عيون الشعر العربيّ اللبنانيّ العامِّيّ، والتي لا تقلُّ مكانةً وجودةً وسَبْكًا وحَبْكًا عن أيّة قصيدة نُظِمَت باللغة الفُصحى، هذا إذا لم تَفُقْها رقّةً وإمعانًا في الدخول إلى قلوب السامعين. كيف لا وهي وليدةُ الارتجال والعَفويّة وبِنْتُ ساعتها! فالقصيدة أو الردّة الزجَليّة لا تخلُدُ إذا ما رواها راوٍ عن لسان صاحبها. حلاوتُها وخلودُها مرهونان بشخصيّةِ شاعرها وصوتِه وجودةِ إلقائه وحُسنِ أدائه وقُدرتِه على استلهام المناسبة وخَطْف اللحظةوتجميد الصورة في إطارٍ من العفويّة والبلاغة في آن.
ويسألُني الزغلول أن أُرسِلَ له بالذي سوف أكتبُه، وهو مُدرِكٌ تمامًا وواعٍ لتلك الحاجة المُلِحّة والفراغ الرهيب الذي فرضَته ظروفٌ سياسيّة وجِدالاتٌ فلسفيّة ولُغَويّة وأُخرى دينيّة وغير دينيّة. ذلك الحصار غير المقبول بعد الآن الذي ضربَه الغُلاةُ لغةً ودِينًا حول قصائد اللغة العاميّة، فمنعوها من الوصول إلى مَصافِّ شعر اللغة الفُصحى التي هي—ونحن نعتزُّ بذلك ونزهو—لغةُ القرآن الكريم الذي نزلَ بلُغة الضاد. لكنَّ هؤلاء نَسوا أو تناسَوا أنّ الكتابَ العزيز إنّما أُوحيَ إلى رسول اللّه (صلعم) بلهجة قُرَيش قبل أن تُصبحَ لغةَ النبوّة والوَحي. وأنا لستُ من الداعين إلى إحلال العامِّـيَّة محلَّ الفُصحى أو إلى استبدال الأُولى بالثانية، لكنّني على يقين من أنّ الشعرَ الشعبيّ الذي هو تراثُنا وديوانُنا وسِجلُّ ذاكرتنا الجَماعيّة ووسيلتُنا المفضَّلة عَفويًّا للتفاهُم والتخاطُب اليوميّ_ هذا الشعر العفَويّ الارتجاليّ، الذي هو حقيقةٌ كما الأرز والأهرام والبَيداء، جديرٌ بأن يُدرَس بعُمق ويُدرَّس في المدارس. وجديرٌ بالذِّكر أنّ كثيرين من أعلام الفُصحى غَنَّوا بالعاميّة وتغنَّوا بها. نذكرُ على سبيل المثال لا الحَصر: المطران جبرائيل القلاعيّ (1440-1516)، الشيخ إبراهيم الحورانيّ (1844-1916)، رشيد نخله (1873-1939)، جبران خليل جبران (1883-1931)، عبد الله غانم (وُلِد 1897)، إميل لحّود (وُلِد 1899)، بولس سلامة (1902-1979)، سعيد عقل (وُلِد 1912)، أنيس الفغاليّ (وُلِد 1921)، الدكتور خليل حاوي (توفّي 1982)، يونس الابن (وُلِد 1926)، عاصي الرحباني (1923-1986)، منصور الرحباني (وُلِد 1925)، جوزف أبو ضاهر (وُلِد 1947)، الدكتور جورج زَكي الحاجّ (وُلِد 1949).
وإذا كنتَ في شكّ مِمّا أقولُه، فما عليك إلاّ أن تسمعَ أو تقرأَ لشحرور الوادي (1894-1937)، وخليل روكز (1922-1962)، وإدوار حرب (1939-1989)، وأسعد سعيد (1922-)، وزَين شعَيب (1924 -)، وزغلول الدامور (1925-)، وموسى زغيب (1937-)، وطليع حمدان (1944-)، وجريس البستاني والعشرات غيرهم من رُوّاد هذا الفنّ المُبدِع. وأنت إن فعلتَ، فلن ترى فروقًا كبيرة بين أبياتهم وتلك التي خطّتها يراعُ المثلّث الأُمويّ وبشّار وأبي تمّام والمتنبّي والمعرّي وآخرين من فطاحل شُعرائنا بالفُصحى. ولن يَضيرَها في شيء إن قارنتَها بشعر المُحْدَثين والمُعاصرين من السَّيّاب والبيَّاتي والفَيتوريّ والحَيدري والصَبور وحاوي وأَدونيس وسعيد عقل ونزار قبّاني وغيرهم.
3- بعد هجرةٍ ليست بالقصيرة عن أرض الوطن إلى حيثُ الأرقام والآلات الحاسبة جزءٌ مهمّ من الحياة، ابتسمتُ طويلاً عند عنوان الزغلول: "زغلول الدامور -البوشريّة - الدَّورة..." لا أرقام، ولا تعقيدات في العنوان. فالزغلول مثل أيّ شخص آخر في لبنان (تقريبًا) معروف في محيطه ومنطقته باسمه وشهرته لا برقم بيته المصمود على علبة البريد؛ فالبيت يُعرَف بأصحابه لا بأرقامه.
الزجَل: نشأتُه وتطوُّرُه
معروفٌ أنّ الشعرَ ابنُ بيئته، يستمدُّ طراوتَه وخشونتَه، صُوَرَه ورموزَه، من مُحيطه ومن قُدرة الشاعر على التعامُل مع هذه البيئة ومدى ارتباطه بها أو انطوائه عنها. الشعرُ البليغ الجيِّد يبقى شعرًا أكان قد قيل بالفُصحى أم بالعامِّـيَّة. فالشاعر المُبدِع يستقطب انتباهَك ويبهرُك بنفحة العبقريّة التي تفوح من أبياته إنْ هو قالها بلغة المتنبّي أو بلهجة زغلول الدامور. هذا إضافةً إلى أنّ الزجَل يمتاز عن شقيقه الشعر الفصيح أو هو يُجاريه في ذلك بأنّه ما كُتِبَ ليُقرأَ فحسْب، بل أوّلاً وأخيرًا ليُلقى، ويُنشَد ويُغنّى من على المنابر وفي الساحات العامّة؛ فهو دائمًا بحاجة إلى جمهور. هكذا الشعر العربيّ عامّةً خطابيّ مِنبريّ. فليبقَ إذًا سوقُ عُكاظ مفتوحًا دائمًا. هذا الشعر العفويّ وُجِد يوم تكوّنَت اللغةُ المَحكيّة؛ لذلك يُرجعُه بعضُ الدارسين إلى الجاهليّة الأُولى يومَ كان الحِداءُ شائعًا على ظهور الإبل. ويرى بعضُهم الآخر أنّ عنترة والمُهَلهِل نفسَهما نظَما زجَلاً (1). والمعروف ثابتًا أنّ العربَ "في الأندلس عرفوا هذا النوع من الشعر، فنظموه وكتبوا فيه الدواوين؛ وأشهرُ زجَّاليهم ابن قزمان"(2). وراح هذا الزجَل يمدُّ جذورَه في مختلف البلدان العربيّة حتّى أصبح لكلّ قُطْرٍ زجّالوه وزجَلُه المميَّز عن غيره. فظهر الزجَلُ المصريّ، والتونسيّ، والخليجيّ (المعروف بالنبَطيّ)، كما يُعرَف في لبنان بالشعر اللبنانيّ.(3) وفي حين أنّ هذا اللونَ الشعبيّ في مختلف الأقطار العربيّة بقيَ مكتوبًا، يُغنّيه مُطربون ليسوا هم شعراءَه أَصلاً، اتّخذَ الزجَلُ في لبنان خاصّةً مَنْحًى فذًّا وأصبح فنًّا راقيًا له أربابُه و"ملوكُه" كما سنرى. فالطبيعة في لبنان سمحاء كريمة لا تقلُّ جمالاً وطراوةً وعذوبةً عن طبيعة الأندلُس؛ فأبدع الشعراءُ في مجال الزَّجَل، وتبارَوا في صياغته، وكانوا هم أنفسُهم يُؤَلّفونه ويُغنّونه في مُناسبات الفرح والحُزن، في السهرات والحفلات والمآتم، وصَولات الفخر والهجاء وحفلات التحدّي، حتّى تكاد لا تخلو مناسبةٌ من وجود شاعر زجَليّ يُؤنِسُ الحاضرين ويُخلِّد تلك المناسبة.
والذي امتاز به اللبنانيّون عن سواهم في هذا المضمار أيضًا هو أنّهم كَوّنوا فِرَقًا خاصّة للزجَل تجمع بين أعضائها أربعة زجّالين؛ ويكون رئيسُ الجوقة أقدمَهم وأكثرَهم شُهرةً وخبرةً في القَول والارتجال. وهكذا خرجوا بهذا الشعر من حَيِّز الخصوصيّة، أي خصوصيّة المناسبات الفرديّة، إنْ على مستوى الشاعر أو الغرَض، إلى حيّز العموميّة التي تتّخذُ من المنبر ساحًا لها في كلّ مدينة وقرية ودسكرة، وتفتح المجال واسعًا للصَّول والجَول، لا بين شُعراء الجَوقة الواحدة فحَسْب، بل-كما سنرى- بينهم وبين فُرسانٍ شُعراء من جَوقةٍ أُخرى، مِمّا يزيد الحماس والإثارة. فكما إنّه لكلّ جَوقة مُحبّوها ومُحبّذوها ورُواتُها، كذلك لكلّ شاعر بمفرده مُحبّوه وتابعوه ورُواتُه ونُقّادُه. فالشاعر العربيّ منذ الجاهليّة حتّى العصر العبّاسيّ، مثلاً، كان له راوٍ يتبعه ويحفظ شعرَه ويرويه. أمّا الشاعرُ الزجَليّ (أو الزجّال) فيكون له عدَدٌ كبير من الرُّواة والأتباع المخلصون له والمُروِّجون لشعره وشخصيّته وحفلاته؛ هؤلاء يتواجدون في كلّ قرية ومدينة. هم جمهورُ هذا الشاعر الدائم الحضور، وشعبيّتُه السيّارة التي تتوافد إلى كلّ حفلة أو سهرة يُحييها أو يُقيمُها، خاصّةً إذا كانت حفلةَ تَحَدٍّ بينه وبين زجّال آخر. وإذا فكَّرَ واحدُنا بأن يستخفَّ أو يهزأَ بهذا اللون من الشعر الذي له أصولُه وبحورُه وألوانُه كما للشعر العموديّ والعروض الخليليّ_ أقول إذا خطرَ ببالِ أحد أن لا يحملَ هذا الشعر على محمل الجِدّ، فليضَعْ نفسَه موضعَ أيِّ شاعر من كبار قُوّاد الزجَل أو حتّى صغاره في مناسبة أو حفلة حيث الجمهورُ مُحتشدٌ بالمئات وغالبًا بالآلاف، ومُكبِّراتُ الصوت تُضخِّم أيّةَ تنهيدة تصدرُ من الشاعر وهو يتهيّأُ للخَوض في موضوعٍ مُعيَّن مع زجّالٍ آخر له أيضًا مُحبّوه وأتباعُه ورُواتُه. وهؤلاء الناس (أي الجمهور) لا يقبلون القليل، ولا يرضَون بالهزيمة، ولا يتحمَّلون التردُّد والتعثُّر في الكلام أو الخروج عن الموضوع. فالشاعر له ولاؤهم الكامل ما دام قادرًا على إشباع غرورهم وطموحهم، وإرضائهم بشعرٍ عفَويّ صائب وبديهةٍ سريعة وعاطفةٍ جيّاشة وصُوَرٍ وخيالاتٍ فريدة. ومِمّا يجعل المهمّة أصعب على الشاعر هو أنّه، في بعض المناسبات، لا يستطيع اختيارَ الموضوع، خاصّةً في حفلات التحدّي الكبيرة. الجمهور يختار الموضوع قبل بَدء الحفلة بقليل. وما دامت حفلةَ شعرٍ ارتجاليّ، ابنِ ساعته ووليدِ مناسبته، فالفَلاح للشاعر المُلهَم الموهوب، السريعِ البديهة والقادرِ على الارتجال؛ أمّا الذي هو بحاجة إلى الكتابة والتحليل والتفكير الطويل، فلا عملَ له مع هؤلاء الشعراء، ولا مكانَ له على المنبر.
وكما للعرب جاهليّتان، في ثانيتهما نَضجَ الشعرُ الجاهليُّ بدايةً مع إمرئ القَيس، فكذلك مرَّ الشعرُ العامِّيُّ الارتجاليّ بجاهليّتَين قبل وصوله إلينا بحالته الحاضرة الراقية. وهذا الشعرُ، وإن كان وليدَ اللغة المَحكيّة وثمرتَها الطبيعيّة، فقد وُلِدَ مُتأثّرًا بعنصرَين أساسيَّين أكسباه صفتَه الخاصّة التي يمتاز بها.
أوّلاً: كان تأثيُر الألحان السريانيّة والترانيم والميامير والمداريش. فمار أفرام السريانيّ مثلاً الذي يعتبُره كثيرون طليعةَ شُعراء الزجَل (بل نظّاميه) في الجاهليّة الأُولى(4)، نظَمَ الصلاةَ زَجَلاً باللغة السريانيّة. وأخذ هذا اللونُ ينتشر في سوريا والأُردُنّ وفلسطين؛ وكان أوّل دخوله إلى لبنان باللغة السريانيّة. وبسبب هذا التأثُر السريانيّ الكبير مالَ الدكتور إميل يعقوب إلى الظَنّ "بأنّ أكثر شُعراء الزجَل اليوم هم من الموارنة"(5).وليس هذا من باب الحَصْر طبعًا. ويُجمِعُ النقّاد على أنّ المطران جبرائيل القِلاعيّ اللِحْفِديّ هو أوّل مَن وصلَت إلينا أشعارُه مخطوطة؛ ولذلك اعتبره مارون عبّود "القَوّال الأوّل".(6)
ثانيًا: يجب ذِكرُ بعض الأُصول والمنابع العربيّة، وإن كانت غيرَ مُثبَتةٍ في كُتُب النُقّاد والباحثين لضَعف تأثيرها بنشوء الزجّل ولعدم وجود المراجع الكافية.(7)
لقد تميّز اللبنانيُّ بثروته الفطريّة التي صيغَت أغانيَ وأناشيدَ وقصائدَ على لسان شُعراء الزجَل والارتجال في لبنان. ولقد صدَق عبد الله الأخطل حين ميّز بين الفِطرة والعِلم فقال: "الفرقُ بين العلم والفِطرة لهو في نظري كالفرق بين النبعِ الفوّار وبئر الشتاء... الأوّلُ يُعطي من نفسه، فيتجدّدُ أبدًا، ويتشعّبُ أبدًا، ويتنوّعُ أبدًا... أمّا آبارُ الشتاء... على غزارتها وعُمقها، فيها شُحّ الأراضي المُجدِبـة"(8). فالعلمُ والنظمُ ورصفُ الكلمات وصياغةُ المعاني والتفنّنُ في البديع والبيان واصطيادُ الأفكار العابرة والسهَرُ الطويل مع القلم والورقة ليست بالضرورة من مُستلزمات العبقريّة والقريحة الفيّاضة والإبداع المحلِّق. ألم يقُل المتنبّي مُحاولاً إبعادَ شبح النظم والسهَر الطويل عن أبياته الفريدة؟
أنامُ مِلءَ جفوني عن شواردِها
ويسهرُ الخَلقُ جرَّاها ويختصمُ
وما دمنا في الحديث عن المتنبّي المُعترَف له بأبلغ ما قيل في الشعر العربيّ حكمةً وفخرًا ومديحًا إلى جانب الصياغة المتينة والإبداع الفريد، فقصائدُ أبي الطيّب_وإن لم تكن كحَوليّات زُهَير وليدةَ سَنواتٍ من التصميم والتركيز، أو منحوتةً من صخر كقصائد الفَرَزدَق مثلاً_ فإنّها لم تكُن بدون تكلُّف وتعبٍ فكريّ؛ بمعنىً آخر لم تكُن كلامًا عفَويًّا تلقائيًّا آنيًّا وليدَ لحظته. فلنستعِدْ بالذاكرة الحادثةَ الشهيرة، يومَ كان أبو الطيّب بين يَدَي سيف الدولة يُلقي رائعتَه الميميّة المشهورة التي مطلعُها "واحرّ قلباه"، وكان، كعادته، يمزجُ المَديح بالفخر والاعتزاز بالنّفس (حتّى قيل: نادرًا ما مدح المتنبّي غيرَ نفسه)؛ فما كان من مُستشار سيف الدولة، ابن خالَوَيه، إلاّ أن رَماه بدَواة، فشَجَّ رأسَه. ولمّا لم يهُبَّ سَيفُ الدولة للذَود عن كرامة الشاعر الذبيحة وشرَفِه المُهان، ارتجل الشاعرُ البيتَ التالي الذي لم يكن، أصلاً، جزءًا من القصيدة المُلقاة، وفيه يقول:
إنْ كان سرَّكُمُ ما قال حاسدُنا
فما لجُرحٍ، إذا أرضاكُمُ، ألَمُ
والتركيز هنا على كلمة "ارتجل"؛ وهذا من نوادر الأمور في الشعر الفصيح، أَي أن يَبتدهَ الشاعرُ بيتًا بِكرًا وليدَ لحظته. على عكس ذلك الشاعرُ الزجَليّ، فنمطُه التأليفيُّ، بصورة عامَّة، هو الابتداه. إضافةً إلى ذلك عليه أن يُعيدَ رَدّتَه إذا ما طالبَه الجمهور بذلك، وأن يُضيفَ إلى مطلعها بيتَين على الأقلّ. فمن حقّ الجمهور أن يُطالبَ قائلاً: "عيدْها وزيدْها". وما على الشاعر المُعتلي المنبر إلاّ أن يُضيفَ مطلعًا جديدًا من بيتَين على الأقلّ مُجاريًا نفسَ الوزن والقافية وروحيّةَ المعنى المنشود انسجامًا مع بقيّة الردّة السابقة قلبًا وقالبًا. والشاعرُ الزجَليّ يعتزُّ ويفتخر بتضمينه أبياتًا ومعانيَ مُنتقاة من الشعر الفصيح الجاهليّ أو الأُمَويّ أو العبّاسيّ، مثلاً، واستخدام أسماء شُعراء الكلاسيكيّة الكبار في ردّات الزجَل، والاستشهاد ببعضٍ من أقوالهم ومواقفِهم، وخَلْق صفةِ قرابة بين الزجّال وأحد أولئك الأعلام. فكثيرًا ما نرى أسماءَ شُعراء المعلّقات والأخطل وجرير والفَرَزدَق والبُحتريّ وأبي تمّام والمتنبّي والمعرّي، فضلاً عن جبران، تُستعمَل رموزًا ودَعْمًا لمَوقفٍ أو لحُجّة عند الزجّال. ذلك إضافةً إلى لمحاتٍ من التُراث العربيّ والعالَميّ. فهذا موسى زغَيب يقول للزغلول في بيت مِري، بعد أن اتّهم الزغلول موسى بأنّه فقدَ صوابَه ونصَبَ سياجًا ليصونَ ما تبقّى من عقله أمام جحافل أفكار الزغلول، لشدّة خَوفه من هجومٍ فُجائيّ عليه:
وما بسيِّجْ على عقل شاعر جوهريّ
فيه المعرّي وإبن بُرْد والبُحتري
وسارتر ونيتشه وشكسبير العبقري
ونمل المعنّى مونتو عن بَيدري
فيقول الزغلول_وقد “تَعِبَ” كما تعبَ الناسُ من تهرُّب زغَيب الذي شبّه نفسَه بـ"المَلِك"، كما لبِسَ عباءة الحُسَين، وقارنَ نفسَه بعيسى، واستعان باسم موسى النبيّ واسم الرسول العربيّ علَّه يتخلّص من موقفٍ حَرِج وَضَعَه فيه الزغلول نافيًا وجهَ الشَبَه بين موسى زغَيب وموسى النبيّ، وبين عَصا زغَيب وعَصا النبيّ:
جيب العصايي العند موسى صاحبَك
تا اليوم كَسِّرْها عَراسَك يا صَبي
ويُضيف الزغلول وقد حوّل عصا زغَيب إلى عصا العبيد التي أشار المتنبّي إليها:
الملك كافور متلَك كان أسوَدْ
عَبْد، شِفّه وَطا وشِفّه غطاها
وعندْما هاجَمو بالشعر أحمَد
أبو الطيّب لوى الكرسي ولِواها
وعصاتو الجِلْدَك عليها معوَّدْ
قبْل ما يشتري الزنجي اشتراها
وأنا رجعت دفعت ليرات أزْوَدْ
تا أحضى بها العصا وجرَّك وراها
حاجْ تتهرّب وتزعَلْ وتحردْ
كفاها خلْط هالعالَم كفاها
وإذا استنجدت بعيسى ومحمّدْ
ما راح سيبَك ولا برْمي العصايي
قبْل ما تدوِّر "حراجِل" عزاها.
ويحسنُ الإيضاح أَنَّ بلدة حراجِل هي مسقط رأس موسى زغَيب .
ولعلّ أَفضلَ ما استخدمه الزغلول من رموز دِفاعًا عن مَوقفٍ معيّن نجدُه في لقاء "النسور والصقور" الذي جمعَه مع الشاعر موسى زغَيب في حفلة التحدّي الكُبرى في بيت مِري، عام 1971، التي تُشكّل غايةَ هذه الدراسة، كما سنرى في الجزء الثاني منها.
زغلول الدامور: مقامُه وريادتُه في تطوير الزَّجَل
نعود إلى الزغلول الذي يكاد اسمُه يكون مُرادِفًا لكلمة زَجَل. فواحدُهما لا يُعرَف بدون الآخر. الزغلول الذي ملاْ لبنان وشغل اللبنانيِّين بل العرَب، وأطرب الجماهير وأسكرَها بكلماته الرقيقة العذبة، ومعانيه البليغة، وبديهته الحاضرة أبدًا وأُسلوبه السهل الممتنِع_ ينطبق عليه تعريفُ جبران للشاعر. وحين يُنشد الزغلول يُصيب، ولا يخرج عن الموضوع، سواء كانت أبياتًه في مجال المديح أو الذمّ أو الفَخر أو الرثاء. فهو لخبرته العميقة وباعِه الطويلة في الارتجال، في شتّى الموضوعات والمناسبات، تراه قد عجنَ اللغة وخَبَزَها، فطاوعَته القوافي، ورقصَت له الأوزان، وحضَرَتْه المفردات تقفُ رَهْنَ إشارته، يُقَولبُها كيفما أراد، ويسكبُها كحبّات العقد الفريد واحدةً قرب أُختها؛ فإذا بقصيدته أو ردّتِه كالدُرّ النَّضيد، أو كباقة الياسمين المشكولة أزرارها واللؤلؤ الوهّاج. هذا كلُّه إضافةً إلى أداءٍ يأخذُ بالقلوب، وصوتٍ ولا أجمل، يُعطي كلَّ مناسبة موسيقاها الفريدة ونغَمها المطلوب، إضافةً إلى تجويدٍ ومُحاكاةٍ لصوت الناي أو الكمان. وحدَه الزغلول قادرٌ على مَوسَقَةِ النغَم. يخرجُ اللحنُ من بين شفتَيه فتكاد، وأنت تستمع له، تظُنُّ أنّك في حضرة جوقة تجمعُ الكلمةَ والنغَم. فالزغلول هو الشاعر، وهو المغنّي، وهو المُلحِّن في آن. وبعد أن تبهرَك كلماتُه وتسحرَك أبياتُه، ترتاح لصوته وأدائه الرائعَين؛ فصوتُه نابعٌ من حنجرة لا تتعبُ ولا تتجرّح، ولا تعرفها البحّة، ولا يدركُها طولُ المجال في الغناء. فقلّما تجدُ شخصًا لم يسمعْ صوتَ الزغلول أو لم يسمعْ به في لبنان المقيم ولبنان المغترب والعالَم العربيّ. هو من الركائز العريقة التي يرتاح عليها تراثُنا الشعبيّ. كلُّ مناسبة يُدعى إليها يُخلِّدُها. إنّه (الشيخ) الجليل (والكاهن) المحترَم الذي ناضل من أجل هذا الفنّ اللبنانيّ الأصيل والذي نذرَ نفسَه لخدمته، فكرّس حياتَه وشبابَه للنهوض بفنّ الزجَل إلى ما وصل إليه الآن. إنّه الشاعر الذي تكاملَت فيه عناصرُ الإبداع التي تسمو به إلى شرفات الخلود. فقد جاد عليه الخالقُ تعالى بالبلاغة واللباقة وسرعة البديهة وحضور الذاكرة والصوت المخمليّ. وقد أدركَ الزغلول كلَّ هذه العطايا—وكان بطبعه الخَلوق مُقدِّرًا لهذه المواهب الفريدة—فأصبح شاعرَ كلّ لبنان، وراح يتكلّم بصوت كلّ لبنانيّ بلا استثناء: في الأعراس، في المآتم، في الحرب وفي السِلم، وفي كلّ المناسبات الخاصّة الشعبيّة والرسميّة. وهو أميرُ المنابر بلا مُنازع في حفلات التحدّي التي خاضها قُبالة كثيرين من فرسان المنبر؛ فصارت أبياتُه محفورةً في ذاكرتنا، وبقي صوتُه يصدحُ في آذاننا في كلّ حين.
وهنا يحضرُني قولُ الشاعر الكبير نزار قبّاني في تقديم كتاب "الناي والريح" لشاعر لبنانيّ كبير أيضًا هو الدكتور خليل حاوي. يقول قبّاني عن حاوي "شاعرٌ جذّابُ الشخصيّة، لا يستعير أصابع الغَير ولا يشرب من محابرهم."
وهكذا الزغلول أشعارُه وليدةُ عبقريّته الفذّة؛ فهو طائرٌ فَرْدٌ بين طيور الغناء، وشاعرٌ نسيجُ وَحدِه بين أُمراء الارتجال، لا يقلِّدُ الشعراءَ الآخرين، ولا يمدُّ يَدَه إلى موائدهم. "هو البحر" كما قال المتنبّي، وغيرُه هُمُ الأنهار والسواقي والآبار الشحيحة أو الموسميّة.
وُلِدَ الزُغلول (جوزيف الهاشم) في البوشريّة، قضاء المتن، عام 1925. درس في الجدَيدة، ونال الشهادة المتوسّطة عام 1936. بدأ يرتجلُ الشعر وهو ما يزال تلميذًا في التاسعة من عمره. وكان يصرف وقتَه في المدرسة ينظمُ الشعر بدلَ أن يلعبَ مع الأولاد معظم الأحيان. وهكذا لَفَتَ إليه نظرَ أساتذته وزملائه الذين قالوا: هذا الولد، ابن الداموريّ (مزغلَل)، وهو يكتب الشعر. وانطلاقًا من كلمة داموريّ ومزغلَل غلب اللقب على الاسم، فصار جوزيف الهاشم الذي هو أصلاً من الدامور يُعرَف بزغلول الدامور وهو في التاسعة من سِنيه. تزوّج في سنٍّ باكرة؛ وهو زوجٌ صالح وأبٌ حنون، وجَدٌّ مُحِبّ. وزغلول الدامور "شاعر غير عاديّ، عايشَ المنبرَ الزجَليّ 50 سنة ولا يزال؛ مُحدِّثٌ لَبِقٌ، وشخصيّتُه مُميَّزة بين شعراء الزجَل اللبنانيّ. يُعتبَرُ مع الملك الشاعر موسى زغَيب قُطبا المسرح الزجَليّ على الإطلاق."(9) عاصر الزغلول الزجَل منذ بداياته، فهو من أركانَه الأوائل. ومع شحرور الوادي وخليل روكُز يقف على رأس مُثلّث العبقريّة الذي أوصل الزجَل إلى ما عليه اليوم من شُهرةٍ ورُقيّ. وخلال سنواتٍ طويلة ذاع فيها اسمُه على كلّ شَفَةٍ ولسان، غنّى الزغلول في كلّ قرية ودسكرة ومدينة في لبنان، وقام بأكثر من 120 رحلة إلى بلاد الاغتراب. ألّفَ جَوقتَه الأولى عام 1944 ورئسها، ولا يزال بلا مُنازِع. وهو مع الشحرور (أسعد الخوري الفغالي) أوّلُ مَن أرسى دعائمَ المسرح وبروتوكول الحفلة، فأَوجدَ بذلك تقليدًا كان ولا يزال مُتَّبَعًا حتّى اليوم، نَهَجَ القوّالون والشعراءُ نهجَه ومَشَوا على خُطاه؛ فكان هو طليعةَ الرُوّاد الذين غنَّوا في حفلات النوادي والقرى والمدن. وحسب التقليد المتَّبَع تتأَلَّف الجَوقة، على الأرجح، من أربعة شعراء، وغالبًا ما تتّخذ اسمَ رئيسها؛ مثلاً: "جَوقة خليل روكز"، أو جَوقة "زغلول الدامور"، أو تُعرَفُ باسمٍ آخَر يُستعمَلُ كرمزٍ للجَوقة، مثلاً: "جَوقة القلعة" برئاسة الشاعر موسى زغَيب الذي كان من أعضاء جَوقة خليل روكُز، ونظرًا لتفوّقه وقيادته تسلَّمَ زمام الجَوقة بعده. غير أنّه لسببٍ أو لآخَر لم يُسَمِّ الجَوقة باسمه. ومِثلُه فعلَ الشاعر طليع حمدان، أحدُ أفراد جَوقة الزغلول البارزين؛ فقد شكّل جَوقةً برئاسته، وسمّاها "جوقَة الربيع". والشاعر طانيوس الحملاوي أسَّسَ جَوقة "فرقة الكنار". والشاعر حنّا موسى ألّف "جَوقة الأرز". والشاعر جريس البستاني رئس جَوقة "حسّون الوادي". هذا على سبيل المثال لا الحَصر. ولكن ما من جَوقة ثبتَت وأثبتَت وُجودَها ومقدرتها على الإبداع والاستمرار كجَوقة زغلول الدامور. والواضح جدًّا أنّ السببَ الرئيسيّ والأهمّ في بروزها ودوامها والفضلَ الأوّل في صمودها وكينونتها يعودان إلى الزغلول نفسه، هذا العندليب الذي كرّس حياتَه وجهدَه لخدمة الزجَل والمنبر والدفّ. ورغم أنّه أحيا المئات من الحفلات والمناسبات، فهو أبدًا رائدُ التجديد والإبداع، لا يُعيد نفسَه، ولا يُعطي من قديمه. وفي كثير من الأحيان، خاصّةً في ليالي الصيف الجميلة في لبنان، يكون الزغلول ضَيفًا، في كلّ ليلة بدون استثناء، على منبر مختلف. وكلّ ليلة يتجدّد ويجود ويرتجل ما يليق بالمناسبة. فهو أبدًا جديد، لا إعادة ولا تكرار، ولا تقديم للقديم من أقواله. هو ككبار الشعراء فينيق يشمخُ من رماد المناسبة، ويتوهّج مع لحظة الإبداع، ويرتدي عباءةً جديدة، ويكسو شعرَه حلَّةً طريفة، ويسكبُ قلبَه أنغامًا بنتَ ساعتها، ووليدةَ الجلسة الآنيّة التي هو كوكبُها وثمرتُها المتجدّدة. وأنا عاشقٌ لشعره وتغريده، وواحدٌ من الآلاف الذين حضروا حفلاتِه وأحبّوا شعره وصوته الرخيم الذي ألهَبَ الحماس وغنّى الوطنيّةَ والحبَّ والجمال؛ وواحدٌ من الآلاف الذين بكَوا في مناسبات التأبين والنَّعي والرثاء التي دُعيَ إليها الزغلول حين يُتَوفَّى شخصٌ ما، أكان من عامّة الناس أم من البارزين سياسيًّا واجتماعيًّا. فإذا ما انتقل إنسانٌ إلى رحمته تعالى، وأراد ذَووه أن يُخلَّدَ أو يُمَجَّدَ في موته وحياته، يدعون الزغلول؛ فيحضر قبل الدفن بساعات قليلة، ويسأل أهلَ الفقيد عن اسمه واسم زوجته وأولاده ومكانتِه الاجتماعيَّة، وهل له أبناء في دنيا الاغتراب، ثمَّ يقف أمام مُكبِّر الصوت مُرتجلاً قصائدَ النَّدْب والرثاء بصوته العذب وكلماته التي تدخلُ القلوبَ والآذان بدون استئذان، والناسُ حوله مُجتمعون. فتدمعُ العيون، وتميدُ الأكتاف، وتبكي، على حدّ قَول العامّة، حجارةُ البيوت والكنائس، وتتأوَّه مآذنُ الجوامع تجاوُبًا مع كلماته وألحانه وأبياته. وإذا ما كانت المناسبة عُرسًا أو تجمُّعًا وطنيًّا، تراه يصدحُ ويغنّي مجدَ لبنان وخلودَ الوطنيّة وأعمالَ رجالات الحُكم، فتنتشي الجماهير، وتعتزُّ الحشود بوطنيّتها وتراثها وبالمآثر المجيدة.
في كلّ بقعة من أرض لبنان المقيم والمغترب له جمهور، وله أتباع ومُحبّون ومُعجَبون. شهرتُه فاقت جميع الشعراء، وأصبح اسم الزغلول صِنْوًا للزجَل والدفّ والمنبر والارتجال. فلبنان كما أرزُه وصنِّينُه وبحرُه كذلك زغلولُه. وغيُر صحيح أنّ العالَم العربيّ لا يتذوّق الزجَلَ اللبنانيّ نظرًا لاختلاف اللهجات المحلِّـيَّة فيه. هذا من الأوهام. فمثلما يعشقُ العربُ عامّةً، وعلى اختلاف لهجاتهم المحلِّـيَّة والإقليميّة، طَرَبَ أُمّ كلثوم وصُداح فريد الأطرش ومحمّد عبد الوهّاب وعبد الحليم حافظ وتغريدَ فيروز ووديع الصافي والشُحرورة صباح وسمير يزبك ونصري شمس الدين، كذلك هم يحبّون شعرَ الزغلول، ويعشقون صَوتَه، ويعجَبون لارتجاله.
الزغلول صوتُ كلّ لبنان
ومُؤَسِّسُ المدرسة الزجَليّة الأُولى
فمنذ عام 1953_وكان قد مرّ عَقْدٌ كاملٌ على تأسيس الزغلول لجوقَته_قام بأوّل رحلة إلى بلاد الاغتراب، إلى البرازيل بالتخصيص، وهو بعدُ في الثامنة والعشرين من عمره. قضَّى هناك أربع سنوات مُتنقّلاً بين الجاليات اللبنانيّة العديدة. كان ذلك بدايةً لرحلاته السندباديّة وبدايةً أيضًا لصَيرورته سفيرًا فوق العادة للبنان الذي غنّاه الزغلول في كلّ بقعة من الكُرة الأرضيّة حيث يُقيمُ لبنانيّون أو عَرَب على الإطلاق، فاستحقّ عن جدارة لَقَب "سندباد الزجَل" و"سفير لبنان إلى بلاد الاغتراب". وعلى سبيل المثال نُذكِّرُ هنا ببعض البلدان التي قَبِلَ الزغلول دعوةَ أبنائها المهاجرين، فزارهم وغنّى لهم، وحملَ معه نسيمَ لبنان وبعضًا من شَذاه. حطَّ في إفريقيا وأوروبّا والأرجنتين وأوستراليا وكندا وأمريكا الشماليّة والجنوبيّة والمكسيك، وغرّد في الكُوَيت والأُردنّ وسوريا ومصر والإمارات العربيّة المتّحدة والسعوديّة وغيرها. ويكفي الزغلول فخرًا أنّ عمالقةَ الارتجال غنَّوا معه في جَوقته، أمثال خليل روكُز وزَين شعَيب وطليع حمدان وإدوار حرب وجان رَعد وأسعد سعيد، والآن سمير عبد النّور وفايز المغربي وغيرهم. هذا إضافةً إلى العشرات من أرباب الزجَل الذين التَقَوا مع الزغلول وغنَّوا برفقته أو تبارَوا معه في حفلات التحدّي. ويبقى أن نذكرَ هنا أنّ لقاءَ الزغلول مع الشاعر موسى زغَيب هو دائمًا قمّةُ اللقاءات؛ فكلاهما صاحب موهبة فذّة، وكلاهما سيّدُ المنبر وله جمهورُه الغفير ومُحبّوه الكثيرون. ومُباراةُ التحدّي بينهما لها نكهتُها الخاصّة وصداها البعيد وعمقُها الأصيل. والزغلول أوّلُ مَنْ أرسى قواعدَ الزجَل، ووضعَ قوانينَ الحفلات، ونظّمَ أُصولَ الجَوقة وسهرةَ الزجَل. هو بحقٍّ مُؤَسِّسُ المدرسة الأُولى ورئيسُها ومُديرُها وأُستاذُها؛ وعلى يدَيه تخرّج العشراتُ من الشعراء الكبار الذين عرفوا الشُهرة، لأنّهم كانوا أعضاءً في جَوقة الزغلول، أو لأنّهم غنَّوا معه أو قلّدوه من بعيد. وهو أوّل مَن طالبَ، منذ بداياته، بإدخال الموسيقى إلى المسرح لمُرافقة الشعراء ومُواكبة الصوت بالنغَم. علمًا بأنّه الوحيد الذي ليس بحاجة إلى ذلك؛ فصوتُه أَشبهُ بأُوركسترا، ووحده قادرٌ على بَثِّ أنغامٍ لا يُصدرُها سواه من الشعراء. وأصبح برنامجُ السهرة الزجَليّة تقليدًا زغلوليًّا مُتَّبعًا وشائعًا منذ بدأَه شحرور الوادي وقَونَنَه الزغلول وكرّسَه وأضاف إليه.
تجلس الجَوقةُ الرباعيّة على المنبر من اليمين إلى اليسار، مثَلاً، هكذا: الزغلول (رئيس الجَوقة)، بجانبه ثاني الشعراء مركزًا، زَين شعَيب (أبو عَليّ)، ثالثًا طليع حمدان، رابعًا إدوار حرب. وهذا الترتيب مفروض بحسب مقام الشاعر في الجَوقة. يُمكن أن تختلفَ الأسماء وتتبدّل الشخصيّات، لكنّ المراكزَ حسب ترتيبها تبقى كما هي. يُرافق الشعراءَ صوتُ الدفّ والدربكّة والمزمار وأحيانًا العود. ويجلسُ الردّادون وراء الجَوقة يُعيدون اللازمة مرّتَين بعد أن يُنشدَها الشاعر. وحسب الأُصول المتَّبعة يفتتحُ رئيسُ الجَوقة (الزغلول) الحفلة بعد مقدّمة موسيقيّة. وتكون القصيدةُ الافتتاحية مُستَوحاةً من المناسبة التي من أجلها أُقيمَت الحفلة. يتبع ذلك "قرّادي" من بيتَين يرتجلُه رئيسُ الجَوقة أيضًا، ويبني عليه ردّةً أُخرى تستوجب جوابًا. فيُجيبُه عادةً الشاعرُ الثاني الجالس بجانبه؛ ويتساجلان معًا. ثمّ يُشاركُ في القَول الشاعران الآخَران كلٌّ بدوره في ردّات تجمعُ بين أعضاء الجَوقة جميعهم، وتستمرُّ حوالى ربع ساعة. بعدها ينطلق رفيقُ رئيس الجَوقة بردّة من أربعة أبيات تنتهي بهجوم أو سؤال مُوجَّه إلى رئيس الجَوقة. وحسب هذه الردّة التي هي من نوع "المعنّى" يتحدّد موضوعٌ معيَّن يتبارى فيه الرئيسُ والشاعر الثاني، كلٌّ يُدافع عن مَوقفٍ يكون قد اختاره، ويشرعُ في إظهار مزاياه وأهميّته وتفوُّقِه على موقف الشاعر الآخَر. وينتهي هذا السجالُ بقصيدةٍ لكلًّ منهما. ثمّ ينتقل الكلام إلى الشاعرين الآخرَين، فيتَّبعان الترتيبَ نفسَه في اختيار موضوعٍ آخَر، وكلٌّ يتبنّى وِجهةَ نظرٍ مُغايِرة، ويصولان ويجولان في إظهار حسناتها وتبيان سيّئات وِجهة النظر التي اختارها الشاعرُ الآخَر، وينتهي دورُ كلٍّ منهما أيضًا بقصيدة تُظهر محاسنَ الموضوع المختار، وتدعمُ بالحُجَج والبراهين المستمَدّة من الحياة والأدب والعِلم والدين والسياسة ضرورةَ اتّباع ما اختاره من موضوع، وتطلب من الجمهور أيضًا التأييدَ والدعم لرأي الشاعر ومُناصرته ضدّ خَصْمِه. والجمهور يُصفِّق مُفضِّلاً شاعرًا على آخر. وفي أحيانٍ كثيرة يطلبُ أحدُ الحاضرين من الشاعر إعادةَ ردّة معيّنة أو مطلعٍ معيّن بقوله: "عيدْها" أو "عيدْها وزيدْها"؛ وهذا يستَوجب من الشاعر ، لا إعادة الردّة فحسب، بل تغيير مطلعها أيضًا، وذلك بارتجال بيتٍ أو بيتَين آخرَين على نفس الوَزن والقافية للردّة المطلوبة. وبعد ذلك يأتي دَورُ الغَزَل حيث يقول أحدُ الشعراء—عادةً رئيس الجَوقة أو شريكه—مَطلعًا غزَليًّا من باب "الموَشَّح" ينتهي بلازمة ذات قافية معيّنة. مثالُه قَول الزغلول:
بَيتِك قرميدو ضلوعي
وعن عَيني بْعِيدْ
وبِغيابِك صارو دموعي
بْلَونِ القرميدْ
ويُشارك الشعراءُ الأربعة بردّاتٍ تَستعملُ جميعًا القافية ذاتهاَ التي بدأَ بها الموشَّحُ الأوّل. وبعد هذه الوَصلة الغزَليّة يختتم رئيسُ الجَوقة الحفلة بقصيدة يُشيدُ فيها بمكان الحفلة هذه ويشكر الحضور، ويُثني على القائمين بأُمور الحفلة ومُؤيّديها وأنصار الجَوقة، ويتمنّى لقاءً آخر قريبًا مُذكِّرًا إيّاهم بأنّه سيترك قلوبَ الشعراء الأربعة مع الحاضرين على أمل اللقاء القريب بهم في جلسةٍ أُخرى. هذا إذا كانت المناسبة حفلةً عاديّة. أمّا حفلاتُ التحدّي فلها نَمَطٌ آخر نأتي إليه حين نبدأ بتحليل لقاء الزغلول وموسى زغَيب في حفلة بيت مِري الشهيرة.
وقد طُلِبَ إلى الزغلول، بفضل شعبيّته الفائقة، أن يترشّحَ للتمثيل النيابيّ في مجلس النوّاب اللبنانيّ؛ فرفضَ بلباقة بقَوله إنّه محبوب الآن من قِبَل كلّ الناس، فلماذا اعتناق السياسة "ليُكرِّهَ الناس فيه". والزغلول معروف بتواضعه وقُربه من الناس وتقرُّبه منهم. ففي كلّ بلدة في لبنان وفي كلّ مدينة في بلاد الاغتراب له "مفاتيح"، أي ناسٌ معيّنون يكونون طليعةَ مَن يتّصلُ بهم أو يزورُهم حين يُدعى إلى منطقةٍ ما؛ وهو يعرفهم من أصواتهم، ويعرف أسماءهم واحدًا واحدًا. فذاكرتُه عجيبةٌ حقًّا، وهذا أمرٌ طبيعيّ عند شاعر تُطيعه القوافي وتنامُ بين يدَيه. وفي لقاءٍ معه في برنامجٍ خاصّ على شاشة "صوت العرب"(10)، انهالت عشراتُ المُكالمات التلفونيّة من مختلف أقطار العالم للكلام مع الزغلول والسلام علَيه ودعوته للزيارة، لتُحيّيه وتشكرَه وتتمنّى له الصحّة والعمر المديد. وكان هو يعرفُ صوتَ المتكلّم، قبل أن يُعرِّفَ عن نفسه، بمجرّد أن يذكرَ اسم البلَد الذي هو منه؛ وذلك للعلاقة الحميمة بين الشاعر والمغتربين. وراح المتّصلون به يُطلقون عليه ألقابًا مختلفة، منها "أمير الشعر"، و"الشاعر الزجَليّ الأوّل"، و"سيّد المنبر"، وغير ذلك. وكان هو يخجل من كلّ هذا، ويُبدي عدمَ ارتياحه لكلّ هذا الإطراء، ويقول بتواضع وحياء: "هذا من عَطْفِ المحبّين والأصحاب." ويُضيف: "الله أعطانا لنُعطي". وجوابًا عن سؤال قال: "أنا منصرف إلى المسرح كلِّـيًّا، ولا وقتَ عندي لجَمعِ كلّ قصائدي."
لا يُمكننا جَمْعُ العِطر في قارورة واحدة
من المؤسِف حقًّا أن نكونَ قد خسرنا كثيرًا من القصائد، فإمّا تكون قد فُقِدَت أو ارتجلها الزغلول في مناسبة معيّنة ولم يُدوِّنْها أحدُ الحاضرين، أو ربّما لم يُسجّلْها أحدُهم على شريط؛ والزغلول مُدركٌ تمامًا أنّ كثيرًا من شعره قد ضاع. فهو لم يهتمّ بجَمع كلّ قصائده منذ البداية، ودائمًا كان في حفلات أو على سفَر؛ وأولادُه "مشغولون بعملهم"؛ علمًا بأنّه أَسّس مطبعتَين، وأصدر مجلّة "المسرح" عام 1958، فكانت لحوالى 25 سنة مرجعًا لعُشّاق الزجَل وأصحابه وشعرائه. ومُؤخَّرًا صدرَ له كتابُه الذي طالما انتظرَه مُحبّوه "خمسون سنة مع الشعر الزجَليّ". وكان قد أصدر، في عام 1958، كتابَه الأوّل تحت عنوان "المرج الأخضر". والزغلول يُدرك تمامًا أنّ الشاعرَ الزجَليّ أو شاعرَ الارتجال يقول ردّتَه ويمشي؛ فهو لا يحفظ كلَّ ردّة أو قصيدة يقولها، ولا هو يُريد أن يتذكّرَ معظمَ ما يقوله حتّى لا يقعَ في شِباك التكرار وعدم التجديد. وأثناء المقابلة التليفزيونيّة المشار إليها سابقًا، كثيرًا ما طلبَ إليه المتّصلون إلقاء قصيدة أو ردّة مُعيّنة كان قد قالها سابقًا؛ فكان جوابُه أنّ الشاعرَ لا يتذكّر كلَّ ما يقولُه في معظم المناسبات. "الشاعر يقول وينسى"، لأنّ شعرَه ارتجال وابنُ ساعتِه. أمّا الجمهور فيتذكّر هذه الأقوال لأنّه يروح يُردّدُها مرةًّ بعد مرّة، فتبقى عالقةً في ذاكرته لوقت طويل.
واضحٌ أنّه ليس من المُمكن أن تُجمَعَ كلُّ أقوال الشاعر الارتجاليّ إلاّ إذا كان معه راوٍ أو كاتب يُرافقه على الدوام ، أو آلةُ تسجيل في جيبه. وكلا هذَين الأمرَين مستحيل. فشاعرُ الزجَل مِثلُ الوردة يفوحُ عطرُها بدون انقطاع، ولا يمكنُك أن تجمعَ كلَّ العِطر في قارورة واحدة. وأُعطي مثالاً على ذلك من حياة الشحرور. الردّة أو القصيدة التالية لن تعثرَ عليها في أيّ مكان في كتاب "شحرور الوادي أسعد الخوري الفغالي: الديوان الكامل" أو بين أوراق الشحرور الخاصّة، أو حتّى بين القصائد التي جُمِعَت بعد وفاته، لأنّها قصيدةٌ ارتجلها بنتَ ساعتها، كمئات القصائد الأخرى التي قالها الشحرور في لحظة معيّنة ونسيَها بعد فترة وجيزة، فكأنّها ما كانت إلاّ إذا احتفظ بها مَن حضَر أو مَن قيلَت له أو فيه.
كان والدي من عُشّاق الزجَل ومِمّن عاصروا الشحرور وتَبعوه إلى كلّ حفلة أقامها؛ فقامت بينهما مودّةٌ خاصّة. وكان والدي أيضًا "مُتعهِّدًا" يُقدّم الحجارة لبناء البيوت وعنده "مقالع". وفي أحد الأيام انفجر قربه "لَغْمُ" الديناميت، فكُسرَت يدُه اليُمنى، وأُصيب بالعَمى (مؤقّتًا)، ثمَّ استعاد نظرَه بعد شهرَين من الحادثة. وحصل أن سمع الشحرور بهذا الأمر، فصعد إلى المنصوريّة- المتن لزيارة والدي، نقولا الحاجّ، والاطمئنان عنه. قرعَ الشحرور الباب؛ ففتحَت له جدّتي. وحين شاهد الشحرور صديقَه جالسًا أمامه معصوبَ العَينَين، أخذ قُبّعتَه بين يدَيه، وارتجل التالي وهو واقفٌ على عتبة الباب ، قال:
بصرْت مَنام منه القلب دامي
وعدْت إمسحْ دُموعي بكمامي
شفْت البدر بالقبّة العَلِيّة
نورو شحيح عا وجهو غمامي
نون قاف واو [جمَعتْهُنْ] سَوِيّة
وألف لام تمّت لي العلامي
"نقولا" بجانب الصخرة القويّة
ومنْ نِصّها انفجر بارود حامي
قمت صلّيت فَرْضي بطيب نِيّه
إلاّ ورفرفت فَوقي حمامي
تقلّي قومْ يا أسعد هنيّه
الحاجّ مليح لا تعطَلْش همّو
رجِع لِمَيمتو بصحّة وسلامي.
وطلب والدي من الشحرور فَورًا إعادة هذه الأبيات مرّةً أخرى وحفظها عن ظَهْر قلب. وكان يُردّدها فخورًا بعلاقته الحميمة مع الشحرور. وهكذا حفظتُها أنا، لأنّي سمعتُه يُردّدُها مرارًا أمام الزائرين. لا شكّ بأنّ هذه واحدة من مئات الردّات والقصائد غير المدوّنة. وفي رأيي أنّ هذا المثال ينطبقُ على كلّ الشعراء الزجَليّين.
ويكاد الزغلول أن يقفَ وحيدًا بين شُعراء المنبر الكبار الذين يعتنون بصحّتهم، ولا يُفرطون في الشراب والطعام. فهو لا يُدخِّنُ، ولا يشربُ القهوة، ولا يتعاطى الخمرة—وهذا أمْرٌ فريد لأنّ من تقاليد الزجَل أن توضَع المائدة أمام الشعراء وعليها "المازوات" والعرَق. فحفلة الزجَل مناسبةٌ اجتماعيّة. حتّى إنّ الجمهورَ يأكل ويشرب العرَق ويستمع إلى الزجَل في آن. قليلون هم الذين يعرفون أنّ الزغلول لا يشرب العرَق وهو يقول الشعر، فالذي أمامه كأسُ ماء فقط. وإن دلَّ هذا على شيء، فعلى أُصوليّة المَوهبة التي خُصَّ بها زغلول الدامور؛ فهو أبدًا حاضرُ البَديهة، وليس بحاجة إلى مُنبِّهات ولا مُسكِرات. "بِسْكَر من عطْف الجمهور ومن جمال الحاضرين،" على حَدِّ قَوله.
وأخيرًا تنبَّهت الحكومةُ اللبنانيّة إلى أنّ الزغلول قد أصبح في وجدان اللبنانيّين جزءًا لا يتجزّأُ من تُراثهم، وأدركَت أنّ جيلَنا الآن هو جيل الزغلول. فنحن رَبينا على صوته وتغذَّينا بأشعاره وأبياته. إستقبلناه في بيوتنا وفي كلّ ساحة من قُرانا. بنَينا له منبرًا ملأَه الزغلول مع جوقته بصُداحهم ومُوشّحاتهم. ففي عام 1974 قدّم له الرئيس سليمان فرنجيّه وسامَ الاستحقاق اللبنانيّ. ومُؤخَّرًا كرَّمَه نادي "ديوان الكلمة" في حفلةٍ كُبرى رعاها الرئيس الياس الهراوي. وألقى الشاعر موسى زغَيب قصيدةً في هذه المناسبة. يبقى أن يُعيدَ لبنان الرسميّ النظر في مَوقفه من الزجَل الذي هو تراثنا وجزءٌ لا يتجزّأُ من هُوّيتنا، فتعمد الحكومةُ إلى تقريره في المدارس جزءًا من المنهج الدراسيّ المُقرَّر للأدب العربيّ. والواقع أنّ لبنان الشعبيّ قد فاق الحكومة في تقبُّله لهذا الشعر الجميل الذي تراه يُعبّر عن أحاسيسنا وأفراحنا وأتراحنا أصدقَ تعبير في أُسلوبٍ عفَويّ ولغةٍ يفهمُها الجميع، مُقرَّبةٍ من قلوبنا وعاطفتنا وشخصيّتنا العربيّة اللبنانيّة الفريدة.
نصفُ قَرنٍ ونيِّف مضى والزغلول مُمعِنٌ في النشيد، يتجدّدُ كالربيع، يُغنّينا ويُغنّي لنا عشرات الآلاف من القصائد والأبيات، نظمَها وارتجلها. وصدقَ حين قال في افتتاحيّته في حفلة التحدّي مع الشاعر المعروف السيّد محمّد المصطفى:
وما بين الشرق والغرب ووطنَّا
إذا شِعري انوَصَلْ رَدّي بْرَدّي
بِبْني جِسر أبيض للمعنّى
من الزنبق من الزهر المنَدّي.
حفلةُ القلعة
كلُّ عمالقة الارتجال، كما ذكرنا، غنَّوا برفقة الزغلول وتحت رايته، أو تمنَّوا أن يتبارَوا معه في حفلة تحَدٍّ فرديّة. وكثيرةٌ هي حفلات التحدّي التي خاض الزغلول غمارَها، وحضرَها الآلاف من عُشّاق شعره خاصّةً وعُشّاق الزجَل الشعبيّ عامّةً. ولكن يبقى لقاؤه مع الشاعر الكبير موسى زغَيب تاجَ هذه الحفلات. فكلاهما صاحبُ موهبة فريدة، وكلاهما يتمتّعُ بطول النَّفَس وعُمق المعاني والقُدرة العجيبة على استحضار القوافي الصعبة واصطياد الأفكار الراجحة واستلهام اللحظة وإلهاب الحماس في قلوب الجماهير الغفيرة المحتشدة. موسى زغَيب الملقَّب بـ"المَلِك"، وُلِدَ في حراجل عام 1937. واعتلى المسرح حين كان في السابعة عشرة من عمره، وظلَّ رفيقَ الشاعر خليل رُوكز حتّى وفاة هذا الأخير عام 1962. وبعده رئس جَوقة "خليل رُوكز"، ثمّ غيّرَ الاسم إلى "جَوقة القلعة" التي لا يزال رئيسَها. ويُعتبَر موسى زغَيب القُطب الأكبر في مُباريات التحدّي بين الفِرَق الزجَليّة في لبنان؛ وهو يختار خصومَه برويّة، ولا يقبل النـِّزال مع أيٍّ كان. وتقديرًا لجهوده وشعره المميَّز منحَته الحكومةُ اللبنانيّة وِسامَ الاستحقاق اللبنانيّ عام 1973، "لِنَشرِه رسالةَ التُّراث اللبنانيّ في لبنان وجميع بلدان الاغتراب." ويتميّزُ شعرُ زغَيب بالعمق والصعوبة؛ فهو إنّما "ينحتُ من صخر"، مُقارَنًا مع الزغلول الذي وكأنّه "يغرف من بحر" لسلاسة تدفُّقه وسهولة انسياب أبياته وأُسلوبه السهل المُمتنِع. وموسى زغَيب خصمٌ عنيد وجبّارٌ صنديد يُحسَبُ له ألفُ حساب على المنبر. حصلَت عدّةُ لقاءات بين جَوقته وجَوقة الزغلول في المُشرِف وشتورا والمدينة الرياضيّة ومَيروبا والمتَين وعدّة أماكن أُخرى في لبنان وخارجه. ولكن مهما قيل، ومهما يُقال، تبقى حفلةُ التحدّي الكبيرة التي جرَت بينهما في بيت مِري الأنجح والأبقى على مَرّ الأيام. ورغم تعدُّد اللقاءات قبلها وبعدها، ففي رأيي، كما في رأي كثيرين من مُحبّي الشعر الزجَليّ ومُرافقي شُعرائه وحفلاته الذين تكلّمتُ معهم أو الذين لم يحضروا الحفلة هذه، بل سمعوا تسجيلاً لها، وبرأي هؤلاء الذين اتّصلوا يإذاعة "صوت العرَب" يوم استضافت الزغلول، وكذلك في رأي معظم النقّاد، تتميّزُ حفلةُ بيت مِري بتفوُّق جميع الشعراء الذين غنَّوا ليلتَها حتّى الصباح. موسى نفسه أقرَّ بذلك. والزغلول صرَّح بأنّ حفلات التحدّي العديدة التي جرَت بينه وبين موسى قبل بيت مِري وبعدها "ما أخذت الصدى مثلها". فالضجّة والشهرة التي اكتسبتهما "مهرجانات القلعة"_مثلما تُعرَف أيضًا_ فريدة في لقاءات الفِرَق الزجَليّة؛ وهي تُذكِّرُنا بسوق عُكاظ يومَ كان النابغة الذِّبياني حَكَمًا بين الشعراء المتبارين. ويُضيف الزغلول أنّ هذه الحفلة "جمعَت لبنان كلَّه... وكانت قبل الأحداث...حضرها حوالى أربعين ألف خليقة... ودام اللقاء حتّى الخامسة صباحًا، والناس لا تريد أن تذهب إلى بيوتها... ورغم العشرين حفلة تقريبًا غيرها ، فحفلة بيت مِري لا تزال الأهمّ."
في حفلة بيت مِري، ولسببٍ أو لآخَر، نزلَت إلاهةُ الشعر وحلّت بين الشعراء. ليلتَها تفتّحَت قرائحُ المُتبارين فأعطَونا أجملَ ما عندهم من شعر. الفرسان الثمانية من الجَوقتَين كانوا في أوج مجدهم وذروة عطائهم. جميعُهم أجادوا وجادوا، جميعُهم تفَوّقوا وفاقوا. ولا أظنُّ أنّ أحدَهم ربح، وآخرَ خَسِرَ الجَولةَ الشعريّة. فحتّى لجنة التحكيم بقيَت مبهورةً مشدوهةً لِما سمعَت من شعرٍ وكلامٍ رفيع. كلُّ الذي قيل في حفلة "القلعة" كان شعرًا. ليلة 21 تمّوز من سنة 1971 كانت ليلةً انتصر فيها الشعرُ على ما دون الشعر، ولمعَت نجومُ الشعراء الثمانية في الجَوقتَين. جَوقةُ الزغلول كانت تضمُّ، بالإضافة إلى رئيسها، زَين شعَيب وطليع حمدان وإدوار حرْب؛ وجوقةُ القلعة ضمَّت إلى موسى زغَيب أنيس الفغالي وجريس البستاني وبطرس ديب. جميعهم غنَّوا شعرًا استثنائيًّا في تلك الليلة الاستثنائيّة. يبقى أنّ ما قاله الزغلول وموسى ليلتَها في لقاء "النسور والصقور"، في المجابهة المريرة والتحدّي العنيف واللقاء الصعب بين الاثنَين، وضعَ حدًّا جديدًا لمستوى شعر الارتجال، لم يبلُغْهُ الشعراء من قبل، ولا هم ولا غيرهم توصّلوا إليه منذ ذلك الحين. فأنت لو سمعتَ أو قرأتَ ما قيل في لقاءاتٍ أُخرى بينهما، لعرفتَ يقينًا أنّ حفلة بيت مِري كانت قمّةَ الحفلات وسيّدةَ اللقاءات، وأنّ الشعرَ الصافي الذي ارتجلوه أثناءها يبقى درّةَ العقد الفريد. يومَها أعطونا لؤلؤًا وجوهرًا يُرصِّعُ تراثَنا الشعريّ المجيد، ويقف كتفًا على كتف بجانب أَيَّة قصيدة فُصحى حَوليّة أو غير حوليّة فاضَت بها قريحةُ ألمعِ شعرائنا الكبار.
يُؤكّد الزغلول أنّ الشعر الزجَليّ الارتجاليّ من "أصعب الشعر"؛ فالشاعر الموهوب الطويل الخبرة في معانقة القوافي والأوزان وحدَه يستطيع، وبجهدٍ كبير، الغناءَ مع هؤلاء المتفوّقين، هؤلاء الشعراءِ المحترفين الذين كرّسوا حياتهم للارتجال، فأَطاعَتْهم القوافي. ولا يُنكِر الزغلول أنّ الخبرةَ الطويلة أيضًا ومُباراة الشُعراء الكبار، إضافةً إلى الموهبة الحقيقيّة، تُساعدان على إنتاج الشعر الأصيل. ويقول الزغلول: "الممارسة تفرض الاستمراريّة، لا خَوف على الزجَل من بعدي... فالزجَل لن ينقرض... المواهبُ الجديدة موجودة دائمًا، وشعراءُ الفطرة كثيرون، وسيستمرّ الزجَل بعدي ولا خَوف عليه..." لكن مَن برأي الزغلول هو الآن على المستوى المطلوب للتحدّي؟ يُجيب: "شعراء كتار". لكنَّه يُسمّي ثلاثة منهم: أوّلهم الشاعر موسى زغَيب، ثمّ شريك الزغلول ورفيق طريقه الطويل، زَين شعَيب، الذي يكنُّ له الزغلول مودّةً خاصّة واحترامًا كبيرًا، ثمّ الشاعر الغرّيد طليع حمدان الذي غنّى في جَوقة زغلول الدامور سنواتٍ عديدة، وكان من البارزين الذين عُرِفوا في حفلة بيت مِري. وهل يمرُّ الشاعرُ الزجَليّ بمرحلة "جَفافٍ شعريّ"؟ "نادرًا وليس غالبًا" يقول الزغلول. فشاعر الارتجال حين يعتلي المسرح يكون دائمًا في "حالة تَجَلّي". المنبر خشبةُ الانبعاث والتجدُّد، ومواجهة الجمهور هي دائمًا مُجابَهة مع الارتجال، ومِحَكٌّ للعبقريّة. الجمهور هو رأسُ النبع، نبعُ القَول وسببُ الفَيض، ونهاية الغيض. الجمهور يُحرّك الحواسّ والإحساس، ويشحذ الموهبة. والشاعر المنبريّ يكون في حالة "انتقال" وهو على المسرح. هو يستلهمُ المناسَبة، والمناسبَة أبدًا جديدة ومُبهِجة ومُلزِمة في آن. الحماس يفتحُ مزاريبَ العبقريّة، ويُفجِّر مكامنَ العطاء الشعريّ، ويُلهِمُ الزجّال بأبياتٍ وأفكارٍ وردّاتٍ فطريّة وقصائدَ عفَويّة. الشاعرُ الكبير لا يخاف من مُنافِسٍ كبير، بل هو يتمنّاه ويطلبُه إلى ساحات الغناء والتحدّي. لذلك يجود الزغلول دائمًا مع موسى زغَيب. المواجهة بين شاعرَين مُبدعَين "تُفجّر الموهبة"، كما يقول الزغلول. والحوارُ بينهما يتجدّدُ ويتسامى بقدر ما يجودُ به خصمٌ على خصمه.
وهنا لا بُدّ من مواجهة سؤال مُهمّ يطرح نفسه، ولا يسعُ الناقد الجادّ إلاّ معالجته. والسؤال هو التالي: تُرى هل قصائد هؤلاء الشعراء كلُّها عفويّة، أم إنّ بعضها من مخزونات الذاكرة المعتمِدة أساسًا على سرعة البديهة والقدرة على استحضار هذا المخزون اللُغويّ بصورة سريعة وتلقائيّة؟
الجوابُ على هذا السؤال يستوجبُ الدخول في موضوعَين أساسيَّين:1- عُمْقِ المَوهبة الشعريّة وأصالتِها. 2- مدى ثقافةِ الشاعر الزجَليّ العامّة واستيعابِه لتُراثه الوطنيّ كما للتُراث العالميّ، ومدى التزامِه قضايا إنسانيّة عامّة. وفي اعتقادي أنّ لحظة الارتجال هي وليدة العفويّة أوّلاً، ثمّ يرفدُها بُعْدُ التجربة الشعريّة والاستعدادُ الذهنيّ.
لا شكّ بأَنّ الموهبة لها الدور الأساسيّ في عمليّة الارتجال، ولكن لا يمكن أن نُنكرَ أهميّة الثقافة والاطّلاع الواسع على التُراث، والتحضير الدائم لموضوعاتٍ وأفكار ورموز يتعمّق الشاعر في دراستها وفهمها، فتبقى عالقةً في ذِهنه، ممتثلةً في ذاكرته، حاضرةً في مخيّلته، يستعيدها ساعةَ يشاء. هذا إضافةً إلى أنّ شُعراء الزجَل، عامّةً، يعرف بعضُهم بعضًا معرفةً جيّدة، ويعرفُ كلٌّ منهم أيضًا شخصيّةَ الشاعر الآخَر، "المُنافِس" أو "الرفيق"؛ يفهمُ أُسلوبَه ونهجَه ولغتَه وما يمكن أن يستعملَه من رُموز أو يتطرّق إليه من موضوعات. لذلك تراهم يستعدّون لها سَلفًا ويترصّدونها.
وفي مُناسباتٍ كثيرة حين كنتُ أُسافرُ في أيّام الصيف البهيجة قاصدًا مصايفَ مختلفة في جبل لبنان كنتُ أَرى مرّاتٍ ومرّات سيّاراتِ الشعراء الزجليِّين متوقِّفةً عند سهلٍ أو هضبةٍ أو نبعةِ ماء أو بستانٍ يانع قرب الطريق العامّ، وواحدُهم يروح ويجيء مُهَمهِمًا مُردّدًا، ناشدًا بصوتٍ مُنخفض، أو شاردَ الذهن والأفكار، يصطادُ المعاني، ويُخزِّن القوافي إمّا لحفلةٍ مُقبلة أو للقاءِ تحدٍّ قادم.
***
يبقى أنّ الشعرَ الزجَليّ، كشقيقه الشعر الفصيح، قادرٌ على الترفُّع إلى مُستوى القِيَم الإنسانيّة الخالدة من حيث تطرُّقه إلى موضوعات عامّة وشاملة تفرض بقاءَها في كلّ مناسبة، وتسمو فوق عوامل الزمان والمكان، لأنّها تُعالج قضايا تتعلّق بشعور الإنسان ومصيره الكَونيّ إن من ناحية الوطنيّة والتضحيات والكرامة أو من ناحية الأبديّة والموت والحياة والحُبّ والجمال، خاصّةً إذا استطاع الشاعرُ الزجَليّ—كالزغلول وموسى زغَيب مثلاً—أن يحتويَ ثقافةَ عصرِه ويتحسّسَ المآسي الإنسانيّة الشاملة.
المراجع:
1- "روائعُ الزجَل"، إعداد أَمين القاري (طرابلس- لبنان: جرُّوس برِسّ، الطبعة الأُولى، 1998)، ص 5.
2- المرجع السابق نفسه.
3- موسى زغَيب، "قلَم ودفّ"، الطبعة الأُولى (لبنان: شركة الطبع والنشر اللبنانيَّة، 1992)، ص 5.
4- المرجع السابق نفسه.
5- روائعُ الزجَل"، ص 5.
6- أنظر، مثلاً ، المرجعَين السابقَين، ص 5.
7- "روائعُ الزجَل"، ص 29.
8- زغلول الدامور (جوزف الهاشم)، "خمسون سنة مع الشعر الزجَليّ- الديوان الأَوَّل" (بيروت، الطبعة الأُولى، 1995)، ص4.
9- "روائعُ الزجَل"، ص 462-463.
10- مُقابلة مع الزغلول. راديو وتليفزيون العرَب(ART) ، برنامج آلو بيروت، تقديم ميراي عيد، 21 آذار 1989. وقد استقَينا كثيرًا من المعلومات عن الزغلول من هذه المُقابلة.