مَدخلٌ إلى العالَمِ الشعريِّ عند حاوي
أُسلوبُا ومضمونًا (2):
البطَلُ سَببُ الانبعاثِ الأصيل والخصبِ والفداء ورمزُ الخلاص
يتميَّز خليل حاوي في شعرِه ، خاصَّةً بين شُعراء المُعاصَرة الرُوَّاد جميعهم، بمفهومٍ فريدٍ لدَور البطل الفاعلِ حقًّا في عمليَّةِ الانبعاثِ الحقيقيّ. وكثيرًا ما يُصبحُ التمييزُ بين دَورِ البطل ودَورِ الشاعر صعبًا ودقيقًا للغاية، لأنَّ حاوي، ولا شكّ، اعتبر الشاعرَ بطلاً بالدرجة الأُولى. وحين نُحاولُ أن نُفرِّقَ بين الاثنَين، أو أن نرسمَ علاماتٍ فارقةٍ لكلٍّ من هاتَين الشخصيَّـتَين على حِدة، إنَّما نفعلُ ذلك وفي ذاكرتنا قولُ الشاعر نفسِه: "أيصحُّ عبرَ البحرِ تفسيخُ المياه؟" فالأمرُ ليس بهذه السهولةِ مُطلقًا.
شعرُ خليل حاوي مسكونٌ بالرموز المسيحيَّة التي تُعبِّر عن شفافيَّةٍ لاهوتيَّة ونظرةٍ مسيحيَّةٍ للكَون رغمَ أنَّ الشاعرَ يُؤكِّد أنَّه لا يستعملُ هذه الرموزَ لمُحتواها العقائديّ الدينيّ، بل لأنَّها بحدِّ ذاتها لها أهمِّـيَّةٌ عالَميَّة كنماذجَ عامَّة لتفسير المظاهر الوجوديَّة المُتَّفَق عليها. إضافةً إلى هذه المُؤثِّرات العميقة في ثقافته، فحاوي مُتأثِّرٌ بالفلسفة الإسلاميَّة بوجهٍ عامّ، والتوفيقِ بين العقل والإيمان عند الغزالي وابن رشد من مُنطَلقٍ فلسفيٍّ مُستندٍ إلى نظريَّاتِ كانْط المثاليَّة. ثمَّ جاءت أُطروحتُه عن جبران خليل جبران لتُعمِّق اطِّلاعَه على الأدبَين الإنكليزيّ والأمريكيّ، إضافةً إلى قراءاته الدائبة للرومانسيِّين الفرنسيِّين، كما لبودلير Baudelaire وسانت جون برس Saint-John Perse، ولشكسبير والرومانسيَّة الإنكليزيَّة، ثمَّ ليـيتس Yeats W. B. وإليوت T. S. Eliot. هذا إضافةً إلى شُعراءِ المَهجر وإلياس أبي شبكة، مرورًا بالميثولوجيا القديمة، خاصَّةً الكنعانيَّة والبابليَّة واليونانيَّة. لهذا لا يستغرب الناقدُ مثلاً أن يرى حاوي مشغولاً بهُموم العقل والإيمان في قصيدته الأُولى في "نهر الرماد": البحَّار والدرويش.1
يُطالعُنا البطلُ عند حاوي في القصيدةِ المُشار إليها مُشتَّـتًا، متوزِّعَ الذهن بين حقائق العلم وإحساسات التصوُّف. هو مُبحِرٌ يُعاني:
دُوارَ البحرِ
والضوءَ المُداجي عبرَ عَتْماتِ الطريقْ
ومدى المجهول ينشقُّ عن المجهولِ
عن موتٍ مُحيقْ...
إنَّها حيرةُ الإنسانِ المُعاصِر وتساؤلاتُه المُضنِية. والبطلُ هنا هو البحَّارُ الراحلُ في مَتاهاتِ الغُربةِ الوجوديَّة، هو "الإنسانُ الغربيُّ" عامَّةً، سليلُ "عوليس" Ulysses و"فاوست" Faust و"هكسلي" Hexley، أو تُراه الشاعر نفسه الذي سارَ على خُطواتهم في الرحلةِ نحو "اليقين"؟ وأيًّا يَكُن، يُطلَّ البطلُ علينا ضائعًا، مُرهَقًا، خائبَ الأمل: فلا العلمُ ساعدَه ولا المنطقُ خلَّصَه، ولا التنقيبُ العلميُّ أسعفَه، ولا حتَّى البطولة نجَّته. نراهُ مُتوجِّهًا إلى ضفاف "الكَنج"، منبتِ التصوُّف، فماذا كانت النتيجة؟ لم يَـرَ غيرَ طين ميِّت هنا، وطين حارّ هناك، وطينٍ بطين.
هذا البطلُ المأساويُّ المُعاصِرُ الذي يَقبعُ في داخل كلٍّ منَّا مكتوبٌ عليه أن يُجابهَ الوجودَ وحيدًا. إنَّها سمفونيَّةُ القلقِ الوجوديِّ الرهيب، معزوفةُ زمانِنا المشحون بالتوتُّر والتشنُّج والضَياع. وييأسُ البحَّار، فلا الشرقُ العقيمُ يُرضيه، ولا الغربُ الغارقُ في تعقيداتِ الفكر والمادَّة يحلُّ أزمتَه النفسيَّة. لذلك، يبقى في آخرِ القصيدة وحيدًا تائهًا يُواجِهُ مَصيرهُ المجهول دون التوصُّل إلى يقينٍ أو خلاص:
خَلِّني أَمضي إلى ما لستُ أدري،
لن تُغاويني المواني النائياتْ،
بعضُها طينٌ مُحمَّى،
بعضُها طينٌ مَواتْ.
آهِ كم أُحرِقتُ في الطينِ المُحمَّى!
آهِ كم متُّ مع الطين المَواتْ!...
خلِّني للبحرِ، للريحِ، لموتٍ
ينشرُ الأكفانَ زُرقًا للغريقْ،
مُبحِرٌ ماتت بعَينَيه مناراتُ الطريقْ،
ماتَ ذاكَ الضوءُ في عَينيه ماتْ،
لا البطولاتُ تُنجِّيه، ولا ذلُُُّ الصلاةْ.
أمَّا البطلُ الحقيقيّ، البطلُ المُخلِّص، الطالعُ من وهج الأُسطورة الانبعاثيَّة، فنلحظُ خصائِصَه المميَّزة، لأوَّل مرَّة، في قصيدة "بعد الجليد". يُمهِّدُ حاوي لقصيدته هذه فيقول: "في هذه القصيدة التي تُعبِّرُ عن مُعاناة الموت والبعث، من حيث هي أزمةُ ذاتٍ وحضارة وظاهرة كونيَّة، يُفيدُ الشاعرُ من أُسطورة تمُّوز وما ترمزُ إليه من غلبة الحياة والخصب على الموت والجفاف، ويُفيدُ من أُسطورة العنقاء التي تموتُ ثمَّ يلتهبُ رمادُها فتحيا ثانيةً."
نُلاحظ هنا أنَّ الشاعرَ لم يتوصَّلْ إلى خَلقِ بطَلِه الحقيقيّ بعد، فنراه "يُفيدُ" من بطل الأُسطورة، يستخدمُه في شعره حتَّى تستقيمَ له القدرةُ والتجربةُ على خَلقِ بطلٍ جديد، وإن يَكُنْ أُسطوريَّ الملامح، إلاَّ أنَّه خاصّ برُؤياه هو، وحقيقيّ، تتجلَّى في طلعتِه "صفوةُ الأصالة العربيَّة، تتخطَّى ما تتّصفُ به ذاتُه من عفَّةٍ وكرامةٍ وفِداء يتجسَّدُ في التاريخ فيكون الانبعاثُ العربيُّ الأصيل."1
هنا لا يعنينا كَونُ تمُّوز رمزَ البَعثِ وإلهَ الخَصب بقدرِ ما يهمُّنا أنَّ الشاعر جمعَ في شخصيَّة تمُّوز-البَعْل خلاصةَ مفهومِه للبطل الفادي-المخلِّص الذي على صورته هو يُريد أن يبنيَ جيلاً جديدًا من الفُرسان الميامين.
قبل تَخطِّي الجليد علينا أن نمرَّ في "عصر الجليد" حيث تموت عروقُ الأرض وتَيبسُ الحياةُ في عروق أهلها "لحمًا قديدًا"، فلا أملَ بالنجاة. إنَّه "الموتُ الأكيد" كما يُعانيه الشاعر، فيروحُ يُناشدُ الإله-البطل مُرتجيًا الخلاص. إنَّه نداءٌ أو ابتهالٌ هو، فيما هو، "كنائسيّ" يُعرَفُ "بالمدائح" فيه يُردِّدُ المُصلِّي جملة "يا ربُّ ارحَمْ" ثماني مرَّات. وهكذا تكتسي تضرُّعاتُ الشاعر حلَّةَ الطقوس "الكَنَسيَّة الأُرثوذكسيَّة" في جدِّيـَّةٍ بالغة. ويمزجُ بين أُسطورة تمُّوز والمُعطَياتِ المسيحيَّة كما نُلاحظُ من المقطع التالي، مع الإشارة البارزة إلى أنَّ حرفَ النداء "يا" قد استُخدِمَ ثماني مرَّات على طريقة الابتهالات أو المَدائح في مُخاطبة رمز "تمُّوز–المسيح":
يا إلهَ الخِصبِ، يا بعلاً يفضُّ
التربةَ العاقرَ،
يا شمسَ الحصيدْ،
يا إلهًا ينفضُ القبرَ
ويا فصْحًا مجيدْ،
أنت يا تمّوز، يا شمسَ الحصيدْ،
نَجِّنا، نجِّ عروقَ الأرضِ
من عُقْمٍ دهاها ودَهانا...
أنت يا تمُّوز، يا شمسَ الحصيدْ...
باركِ النسلَ العتيدْ،
باركِ النسلَ العتيدْ،
باركِ النسلَ العتيدْ،
يا إلهَ الخَصب، يا تمُّوز، يا شمسَ الحصيدْ.2
فتمُّوز هنا هو "شمسُ الحصيد"، كما إنَّه "عيدُ الحصاد" في نشيد "الجسر"، يفضُّ التربةَ العاقر، يُخصِبُها. والمسيح هو "الفصح المجيد" الذي ينفضُ القبر وينتصر على الموت. هكذا يجمع البطلُ في ذاته صفاتِ الخصب والبعث والقيامة والحياة. لكنَّ الصلاةَ في "نهر الرماد" بقيَت "شهوةً" و"عبَثًا" ليس إلاَّ. والتضرُّعُ والبكاءُ والتحدِّي لم تكُن لتنفعَ إطلاقًا. ففي المقطع الذي يلي مباشرةً يُردِّدُ الشاعرُ لفظة "عبثًا" خمسَ مرَّات تأكيدًا لاستحالة البعث والتجدُّد:
عبثًا كنَّا نُصلِّي ونُصلِّي...
عبثًا نعوي ونعوي ونُعيدْ...
عبثًا كُنّا نهزُّ الموتَ...
عبثًا نغتصبُ الشهوةَ حَرَّى
عبثًا نسكبُها خمرًا وجمرَا...
فالبعثُ لا يتحقَّق إلاَّ بنَفْضِ الأعماق، بضَربِ الجذورِ واقتلاعِ الفسادِ من شروشِه. ولِمَن يُصلِّي الشاعرُ حتَّى الآن؟ ومن أجلِ مَن؟ أليس من أجلِ "الموتى الحزانى، والجلاميدِ العبيد"؟ وهل هم أهلٌ للصلاة والقيامة؟ طبعًا لا. لكنَّ الشاعرَ لم يُدركْ هذا بعد. فالمُراد أن يُولَدَ جيلٌ جديدٌ من الفُرسان الأبطال على صورةِ تمُّوز وكمالِه. وهذا هو العاملُ المُهمُّ والفرقُ الأساسيُّ في تطوُّرِ مفهومِ "الخَلق" والولادة والبَعث بين آلهةِ اليونان مثلاً والإله الواحد العِبريّ-المسيحيّ. فبينما صنعَ اليونانُ والكنعانيُّون وسواهم آلهتَهم على صورتهم هم، وزوَّدوهم بخصائصَ ونزواتٍ بشريَّة، خلقَ "اللهُ الواحد" البشرَ على صورته ومِثالِه هو. وهكذا يجبُ أن يكونَ الجيلُ الجديد الذي يُريدُه الشاعرُ على صورة البطَل-الإله المُبدِع. ولهذا فقد كانت الصلاةُ عبَثًا. وما دام "ميثاقُ البعث الجديد" لن يتمَّ بدون فِعلِ فداء، فقد تحتَّمَ على الشاعر أن يُضحِّيَ بنفسه قبل أن يحصلَ البعثُ وتتحقَّقَ القيامة. لذلك جاءت الصلاةُ تضرُّعًا فبُكاءً ثمَّ "عُواءً"، وسقطَ "التحدِّي"، لأنَّه جبانٌ لا رجولةَ فيه، ولا صلابة، ولا بطولة. وكانت النتيجة صنوًا للهزيمة:
وارتَمَينا جُثَـثًا، لحمًا حزينًا
ضَمَّ في حسرتِه لحمًا حزينَا
ضمَّ في حسرتِهِ لحمًا قَديدْ...
ظلَّ البعثُ استحالة، شهوةً في ضمير "الأرض الخراب"، لأنَّ البومةَ لا تَلِدُ نسرًا، وبالتالي لأنَّ الجيلَ الذي "سينفضُ الموتَ ويغلُّ الريح" لن "يُفرِّخ من أنقاضنا"، وإلاَّ سيكونُ جيلاً من "الموتى الحزانى... تتمطَّى في فَمِ الموتِ البليد". ومهما صرخ الشاعر: "حبُّنا أقوى من الموت العنيد"، فالواضحُ أنَّ الحبَّ وحده لا يكفي لإيقاد الثورة وتحقيق البعث. فهذا تَمَنٍّ جبان، مُتلوِّن، وآنيّ، تُعوِزُه مُطلقيَّة الحبّ المُكتفي بذاته؛ ينقصُه صفاءُ الحبّ الأصيل والتزامُه وعنادُه؛ تنقُصه التضحيةُ الكُلِّيـَّة وشموليَّةُ التجربة والمعاناة.
اللوحةُ الثانية: رجاءُ القيامة "بعد الجليد"
تُعتَبَرُ هذه اللوحةُ من أروعِ ما كتبَ حاوي عن مفهوم "البعث" كشاعرٍ "تموُّزيّ" رائد، حيث يتجلَّى فيها، وبشكلٍ ممتاز، استخدامُه الناجح جدًّا للأُسطورة القديمة. فشهوةُ القيامة، وإن هي ضعُفَت وشحُبَت، غير أنَّها بقيتْ "رعشة" تختلجُ في أَعصاب الصقيع، يُداريها نسلٌ يائسٌ في عروقه، وتحلمُ بها الأرض، وإن يكُن تحت حصار الثلج واليباب. إنَّها توقٌ قتَّالٌ "للشمس" والغَيث "، للبذار... والغلَّة":
للإلهِ البَعلِ، تمُّوز الحَصيدْ
شهوة خضراءَ تأبى أن تَبيدْ
ومع الشهوة حنينٌ موجِعٌ ونَبْضٌ مؤلِمٌ يسري في جسدِ الأرض مُتسرِّبًا إلى عروق المدفونين في جوف القبر يحرُّ أعصابَهم ويؤلمُها:
موجِعٌ نبضُ الدمِ المحرورِ
في اللحمِ القديدْ
إنَّه زمنُ الوَجَع والمعاناة المخنوقة. وهنا يُفيدُ الشاعر، كما سبقَ وأوضحَ لنا، من أُسطورة العنقاء، فيصرخ من تحت الجليد "ربَّاه" أَرسِلِ النار "تتغذّى من رمادِ الموتِ فينا" تُحرِقُنا في جحيمها المُستعِر، تُطهِّرُنا وتصهرُنا، تُحرقُ فينا كلَّ عيبٍ وتخاذُلٍ وانكسار، عَلَّنا ننهضُ من رمادنا أُمَمًا حُرَّةً جديدةً تنفضُ عَفنَ التاريخ:
واللعنةَ، والغَيبَ الحزينا
تنفضُ الأمسَ الذي حجَّر
عينَيها يواقيتًا بلا ضَوءٍ ونارْ
وبُحيراتٍ من الملحِ البوارْ...
"أُمَمٌ" تنسفُ الماضي وترتفعُ مُجدَّدًا حُرَّةً، أبيَّة، تنمو تحت الشمس المضيئة بلا خجلٍ ولا عار. تقفُ صفًًّا واحدًا، تزهو وتُصلِّي بعد أن قبلَتْ معموديَّةَ النار وتطهَّرت بالاحتراق التامّ من دنَسٍ كان اعتراها. إنَّها ولادةٌ جديدة حقًّا لرجالٍ "أقوياء الصُّلبِ نسلاً لا يَبيد". وبتأكيدٍ توراتيٍّ واضحٍ يُصرُّ الشاعر في صلاته على أنَّ أَحفادَه سوف "يَرِثون الأرضَ للدهر الأبيد". ثمَّ يعود إلى الطقوسيَّة الكَنَسيَّة في ابتهالٍ يختمُ به قصيدَه:
باركِ النسلَ العتيدْ
باركِ النسلَ العتيدْ
بارك النسلَ العتيدْ
يا إلهَ الخصبِ، يا تمُّوز، يا شمسَ الحصيدْ.
الاعتقادُ الراسخُ هنا أنَّ البعثَ لم يتمَّ فعليًّا بعد. بل إنَّه بقيَ فعلَ تمنٍّ ورجاءٍ بالقيامة المقبلة. إنَّها رغبة مُلحَّة تنقصُها الإرادةُ الصلبة المُلتزمة. تُعوِزُها بعدُ "تضحيةُ" الشاعر نفسَه على مذبحِ الأُمَّة.
في النشيد التالي تصعيدٌ وجوديٌّ سيكولوجيٌّ لمفهوم الحبّ الذي كان حُبًّا جبانًا، آنِيًّا لا يعرفُ التجربة الحيَّة، ولا هو تطهَّرَ في أتُّونِ الشوقِ ومصهرِ الحنين. في النشيد الجديد يصفو الحبُّ ويستحيلُ إلى فِعلِ فداءٍ مصلوبٍ على جلجلة الغربة. في قصيدة "حبّ وجلجلة"3 نُعاين الشوقَ المحرقَ للعودة إلى الوطن حيث يتيقَّن الشاعرُ هنا من أهمِّيـَّة دَوره في عمليَّة الإنقاذ، ويتفهَّمُ ضرورةَ رجوعه وحتميَّة حضوره الفاعل.
يكتبُ حاوي عن المنفى، من صومعة كَمبرِدج ذاتها، حيث بينه وبين قومه بحارٌ ومسافات:
وأنا في وحشةِ المنفى
مع الداء الذي ينثرُ لحمي،
ومع الصمتِ وإيقاعِ السعالْ،
أنفضُ النومَ لعلِّي أتَّقي
الكابوسَ والجنَّ التي تحتلُّ جسمي،
وإذا الليلُ على صَدري جلاميد،
جدارُ الليل في وجهي
وفي قلبي دخانٌ واشتعالْ...
مرَّةً ثانية، يصرخُ من القبر المتجمِّد "آه ربِّي"، يضرعُ للإله. واضحٌ أنَّ المنفى عند حاوي يُعادل القبر، والوحدةَ تُعادل الموت، وأنَّ الأنا الفرديَّة في انفصامها عن الذات الجماعيَّة تعيشُ في واقعٍ لا طبيعيٍّ مُرعِب: "صوتُهم يصرخُ في قبري تَعالْ." هم أهلُه وأبناؤه "وأطفال أترابه"، يسمعُهم ينادونه مُطالبين بعودته إليهم.4 كيف لا يُلبِّي نداءَهم وهم أبناء حنينه. هنا، مرَّةً جديدة، يتَّحدُ الشاعرُ والبطلُ الأُسطوريّ، أحدُهما يتقمَّص الآخر؛ وتتمُّ عمليَّةُ الانحدار إلى جحيم المُعاناة والقهر في قفزةٍ ملحميَّةٍ ضروريَّة. فالتطهُّرُ من دَنسِ الغربة والتخلُّص من ذنب الانفصال عن الجماعة والقوم إلزاميّ. وتستيقظ في ذات الشاعر أحاسيسُ البطولة المُنقِذة، فينفضُ عن صدره بلاطةَ القبر ويصرعُ الوجعَ والموت، ويخطو نحو الحياة:
كيف لا أنفضُ عن صدري الجلاميدَ،
الجلاميدَ الثقالْ؟
كيف لا أصرعُ أوجاعي ومَوتي؟...
وفي لحظةٍ بطوليَّةٍ يستنجدُ بالإله-البَعْل، البطلِ الحقيقيّ الذي يُخَيَّلُ إلى الشاعر أنَّه يتقمَّصُ دورَه وشخصيَّتَه:
رُدَّني، ربّي، إلى أرضي،
أعِدني للحياة.
إنَّها دعوةٌ صادقة وعودةٌ غير مشروطة. فهناك تنتظرُ البطلَ مصاعبُ وهمومٌ جِسام يعلمُها هو حقَّ العلم. فأرضُه ما زالت ميتةً تحت الجليد، وقومُه يتحكَّم بهم الطغاةُ الغاشمون الذين سيصلبونه الآن بعد أن كانوا بالأمس قد اكتفَوا بجَلده:
وليكنْ ما كان، ما عانيتُ منها
محنة الصلب وأعياد الطُّغاةْ.
ولكنْ ما همَّ، فموتُه يتراءى له كفيلاً بإعادة المواسم والوعود. فهناك سيلقى كلَّ مَن أحبَّ، مَن هم سببُ وجودِه واستمراريَّةِ مُعاناتِه وانتصارِه، مَن هُم أهلٌ لحنينه وأُمنياته وبعثه. سيتجسَّدُ الحلمُ، ويورق الوعدُ، وتُستجابُ الصلاة:
لشبابٍ وصبايا
من كنوز الشمس، من ثلجِ الجبالْ
لصغارٍ ينثرون المرجَ
من زَهْوِ خُطاهم والظلالْ...
هؤلاء هم "الطليعةُ الجديدة"، الجيلُ الجديد، الذي تصوَّره وحلمَ به في مَنفاه. من صُلبِه سيخرجون على صورة البطلِ-البَعل. وهكذا يستمرُّ تصلُّبُ الإرادة الحيَّة وتصعيدُ الموقف الطالع من مصهر الأُسطورة وزخمِ الواقع. إنَّه انتصارُ البطل على الموت والشاعرِ على الغربة. ومن بين المعاني البعيدة التي تحملُها هذه اللوحة، معنى حضور الوطن في ذات الشاعر قُدسًا دائمًا نافذًا حتَّى الأعماق مُتغلغلاً في كيانه حتَّى الجذور. فيبدأ مشوارُ العودة، ويُرنِّمُ الشاعرُ ترتيلةَ تمُّوز يؤنِسُ بها غربتَه وسفرَه الطويل.
أنتمُ أنتُنَّ، يا نسلَ إلهْ
دَمُهُ يُنبِتُ نيسانَ التلالْ،
أنتم أنتنَّ في عمري
مصابيحُ، مروجٌ، وكفاهْ،
وأنا في حبِّكم، في حبِّكنَّ
-وفدى الزنبقِ في تلك الجباهْ-
أتحدَّى محنةَ الصلبِ،
أُعاني الموتَ في حُبِّ الحياهْ.
في طريقه من "كَمبردج" إلى الشرق ينزلُ إلى الجحيم مرَّةً أُخرى. إنَّه قدَرُ البطلِ الملحميّ في صراعِه الوجوديّ الدائم. هذا البطلُ الجديدُ الخالقُ لواقعِه وحضارته هو في صراعٍ مؤلِمٍ مع نفسه الرافضة لحضارة الغرب المادِّيَّة الزائفة، والثائرة، في الآن نفسه، على واقعِ الشرق المتعبِّدِ للخُرافات والأصنام. قصيدةُ "المجوس في أُوروبَّا" تُجسِّد هذه المُعاناة التي عرفنا بعضًا من خيوطها في "البحَّار والدرويش"، ولكنَّها هنا تتأزَّم بحدَّة وشراسة، إذْ يُصوِّرُ لنا الشاعرُ موقفَه المُتصلِّبَ الرافض للحضارة الغربيَّة:
ساقَنا النجمُ المُغامِرْ
عبرَ باريسَ، بَلَونا صومعاتِ الفكرِ،
عِفنا الفكرَ في عيد المساخرْ،
وبروما غطَّت النجمَ، مَحَتْهُ
شهوةُ الكُهَّان في جَمْرِ المباخرْ،
ثمَّ ضيَّعناه في لُندنَ، ضِعنا
في ضبابِ الفحمِ، في لُغزِ التجاَرهْ!...
إنَّها ليلةُ الميلاد، وليس من نجمٍ مُنيرٍ ولا إيمانٍ ولا "مغارة"، حتَّى إنَّ الرمزَ مُنعدمٌ في نفوس الأطفال "الأبرياء"! فالوقتُ نصف الليل، ساعةَ يُفيق الساحرُ اللعينُ على الشرِّ والرُعب، زارعًا الخيبةَ والإحباطَ في قلوبِ الأطفال والمساكين. في النفوس "ضيق" وحشرجة وترقُّب وحذَر. الشارع قفرٌ وفراغٌ مُوحٍ بالموتِ والعَدم. والضحكاتُ حزينةٌ باهتة دونَها رعشةُ التفاؤلِ والفرح. كلُّ هذا يُقدِّمُ صورةً معكوسةً لرحلة المجوس المثبَتة في "العهد الجديد". أولئك الملوك الذين غامروا خلف النجمِ إلى حيثُ الطفلُ المُخلِّص دخلوا مغارةً مُضيئةً بالحقِّ والنور والإيمان. ولكن إلى أين دخلَ البطلُ عند حاوي؟
لأنَّ الواقعَ معكوسٌ مُشَوَّه، أصبحَ الدخولُ "انحدارًا"، وصارت المغارةُ البريئة كهفًا للُّصوص وجحيمًا للذات اللعينة والشهوات الدنيئة. إنَّها خلاصةُ المَدنيَّة الغربيَّة الزائفة، حيث فقدَت الحضارةُ إيمانَها وطهارتَها وفطرتَها الأُولى. إنَّها تأريخٌ للحظةِ الإفلاسِ الحضاريّ، حيث نَرى الشاعرَ مَغلولاً في زنزانة التاريخ، وبتعبير الشاعر "أدونيس"، قد أسلَم أيَّامه للهاوية وحفرَ مقبرتَه في عينَيه وغدا سيِّدَ الأشباح التي عاشرَها ومنحَها اسمَه ولُغتَه، ووقفَ يرثي تاريخَ أُمَّته الكئيب المُتعثِّر الذي استحالَ أشلاءَ حروفٍ لا حُنجرةَ لها تتلاشى في ضمير الشاعر وتكبو على شفتَيه:
وانحدرنا في الدهاليزِ اللعينهْ،
لمغاراتِ المدينهْ،
أَعيُنٌ ترتدُّ عن بابٍ لبابٍ
أعينٌ نسألُها: أين المغارهْ؟
واهتدَينا بسراجٍ أحمرِ
الضوء لبابٍ
حُفرتْ فيه عبارَهْ:
"جنَّةُ الأرضِ! هنا لا حيَّةٌ تُغوي،
ولا ديَّانَ يرمي بالحجارَهْ
ها هنا الوردُ بلا شوكٍ
هنا العُريُ طهارَهْ.
وبرغم ما في هذا الجحيمِ الغربيِّ من دَعارةٍ وفسقٍِ وزَيفٍ وضياع، فالبطلُ-الشاعر وصَحبُه المجوس القادمون من الشرق ليسوا بأفضلَ من سكَّان هذا "الجحيم البارد". الواقع أنَّهم باتوا أكثر زيفًا ورياءً من أصحاب الكهف الضائعين. فصرخ هؤلاء في وجوه المجوس الجُدد:
إخلعوا هذه الوجوهَ المُستعارَهْ
سُلِخت من جِلدِ حرباءَ كريهْ...
ويتألَّمُ الشاعرُ-البطل لأنَّه الآن وَعَى أكثرَ فأكثر واقعَهُ المَهين الكريه. فيُجيبُ بحسرةٍ وتفجُّعٍ أنَّه وصحبَه لم يتقنَّعوا ولم يتطرَّوا. هذه حقيقتُهم المُجرَّدة، وهذا واقعُ حالهم. ويسأل أهلَ الكهف "الحضاريّ" أن يقبلوهم كما هم:
نحنُ لم نخلعْ ولم نلبسْ وجوهْ
نحنُ من بيروت مأساةٌ، وُلِدنا
بوجوهٍ وعقولٍ مُستعارَهْ
تولَدُ الفكرةُ في"السوقِ" بغيًّا
ثمَّ تقضي العمرَ في لَفْقِ البَكارهْ...
فسُمحَ لهم ودخلوا في ليل "المقابر". إنَّه الدخول في موت الحضارة وانعدامها وفنائها. هنا التاريخُ حُطامٌ ويبَاس. صورةٌ أكيدةٌ عن الحياة في الموت، أو بالأحرى، الموتِ في الحياة. تبهرُهم الحضارةُ الزائفة ويغرقون في اللذَّات الجسديَّة، يعبُّون خمرَ الخطيئة، فينسَون مُهمَّتهم وواقعهم، كأنَّهم رجالُ أُوديسيوس (عوليس) أكلوا "زهرة اللوتس" وعاشوا في وهم النسيان الجميل. "واتَّحدنا عصَبًا، قلبًا، دماء"، وآمنوا ولو كذبًا بأنَّهم "في جنَّة الأرض... إنَّ في الأرض السماء..." واستحالَ الطفلُ الإلهيُّ في مغارة البراءة إلى "ساحرٍ" لعين، وصارت عجائبُه السماويَّة سحرًا، كيمياء، وعِلْمًا شيطانيًّا. فسجد "المجوس" له، لطفلٍ سُفليٍّ زائف. خدعَهم "عدوُّ المسيح"، المسيحُ الدجَّال، الذي صوَّر لهم الجحيمَ جنّةً أبديَّة، والدهاليزَ اللعينة نعيمًا مُرتقَبًا:
وعَبدناه إلهًا يتجلَّى في المغارَهْ...
يتخفَّى في المغارَهْ:
في كهوفِ العالَمِ السُّفليِّ
من أرضِ الحضاَرهْ.
لكنَّ الشاعر، وإن يكُنْ على وهن، يظلُّ مُتمسِّكًا بخيطِ الإيمان، موقنًا بأنَّ قدَره غيرُ هذا، وأنَّ ساعتَه لم تأتِ بعد. وفيما البطلُ الوجوديُّ يُعاني هذه التجربةَ الانهزاميَّةَ المَريرة في مُحاولةٍ لاكتشاف ذاتِه وأصالته، يمرُّ بتجربةِ إلهٍ كاذبٍ في مواخير أُوروبَّا التي تحيا الليلَ في سراديبِ الرذيلة تهرُّبًا من ذاتِها وواقعِها. وبينما هو يُصارع "الحوتَ... والوحشَ... والتنّين"، يغتسلُ بنارِ حنينِه وشوقِه، يتصفَّى، يتطهَّرُ ويُقاومُ الرغباتِ والنـزعاتِ في ذاته لكي يتمَّ له وبهِ فِعلُ الخلاص، إذا بقومِه قد عادوا إلى ما كانوا عليه من طُرُقِهم السالفة المنغمسة في أوحالِ الدنَسِ والعارِ والعبوديَّة. وينظرُهم البطلُ من البعيد، تتأَكَّلُه اللوعةُ والمرارة، فهم عبيدُ شهواتهم، وشاعرُهم عبدٌ مُراوِغ بدلَ أن يحملَ مشعلَ الهُدى والفداء، تَراه يُشترى ويُباع ويُساوم:
لم يزلْ شاعرُهم ينسلُّ من جَيبٍ
لجيبٍ خلفَ دينارٍ صغيرْ
ثمَّ يزهو، يتشهَّى، يستعيرْ
لصريرِ الفأرِ في أمعائه
من ضميري صوتَ عملاق الضمير.5
وإذا بفتاتهم مومسٌ عاهرة:
بِنتُهم تستمرئُ النابَ الذي يغرزُ
في البضِّ الحريرْ
وليكنْ نابَ خَصِيٍّ
إن يكُنْ نابَ أَميرْ...
وإذا رجالُهم "لصوص"...
يخجلُ الشاعرُ من هذا الواقع المُفجِع حيث التقاليدُ المُتهرِّئة والعقليَّاتُ الموروثة المتحجِّرة: "أطمار أبي، عُكَّازه"، وحيث أهلُه وإخوتُه عبيدٌ للجهل، ضاعت هويَّتُهم وضعفَ انتماؤهم:
نسلُ السبايا
خلَّفَتهم غزواتُ الشرقِ والغربِ
لصوصًا وبغايا
خِرَقًا، ممسحةً في فندقِ الشرقِ الكبيرْ...
أمَام هذه الفاجعة وهذا العُقم واللامُبالاة العابثة ينتفضُ الشاعر مُمتشقًا غيظَه سيفًا من نار؛ إنَّه بروميثيوس، واهبُ النار، عاد بعد أن رمى ماضيَه وتاريخه وكلَّ ما حَوتْه ذاكرتُه الفرديَّة والجماعيَّة من موروثٍ بالٍ في "نهر الرماد"، فهو إنَّما يتطلَّعُ إلى الجديد البِكْر ليس إلاَّ:
عدتُ في عَينيَّ طوفانٌ من البرقِ
ومن رَعدِ الجبالِ الشاهقَهْ،
عدتُ بالنار التي من أجلها
عرَّضتُ صدري عاريًا للصاعقهْ،
جَرَفتْ ذاكرتي النارُ، وأمسي
كلُّ أمسي فيكَ، يا نهرَ الرمادْ،
صلواتي سِفرُ أيَّوبٍ، وحُبِّي
دمعُ ليلى، خاتمٌ من شهرزادْ
فيك يا نهرَ الرمادْ...
ويستمرُّ بركانُ غضبِه في تدفُّقه الفظيع، لا يُبقي ولا يذَرُ ولا يرحم، "وليمُتْ مَن مات بالنار" في فندق الشرقِ الفاجر، في "البيت المجرَّب" حيث تسكن خفافيشُ الماضي وخُرافاتُه، "أطمارُ أبي، عكَّازُه... نسلُ السَبايا...لصوصًا وبغايا... خِرَقًا، مِمسحةً في فندق الشرق الكبير." ويتفجَّرُ غيظُه في لوحةٍ ملحميَّة الأبعاد، فيرميهم غيَر آسِفٍ ولا نادم، بالصاعقة، بالطوفان، وهو عارفٌ تمامًا مَدى سطوةِ اللعنةِ التي يرشقُهم بها ويصرخ في وجوههم: "لن أبكيكَ يا نسلَ سدوم- لن تموتَ الأرضُ إن مُتُّم، لها بَعلٌ إلهيٌّ قديم،" وحدَه قادرٌ على ولادةِ المُعجزة، فيمحو نسلَكم الذي ملأَها بالعُقم، ويُباركُها، ويمنحُها نسلاً جديرًا به.
يستدركُ الشاعر، وتهدأُ في صدرِه عاصفةُ النقمة، فيتساءل:"ما الذي أبقَتْ عليه النارُ من بيتي، وأتعابي، ومن تاريخ عمري؟" ويا لروعة الجواب! فجأةً، يحسُّ الشاعر برعشةٍ ربيعيَّةٍ في قلبه الحزين، بخفقةٍ طريَّةٍ تحت رماد المحرَقة؛ ويُعاين، في ما يُعاين، فوق معابر (الجسر)، إذْ يتطلَّعُ نحو الأفقِ الجديد، يُعاينُ ابتساماتِ الصغارِ السُّمر، أطفاله وأبناء حنينه. أولئك الذين ولَدَتهم مخيِّلتُه أحرارًا جبابرة، ضحكاتُهم أطهرُ من النار المُقدَّسة، وأقوى من أعاصيرِ جنونِه وحقدِه. فيرتوي بنشوةِ الظفر، ويتذكَّرُ أنَّه طالما عانقَهم في مُخيِّلته، وطالما روَّضَهم في الريحِ والثلجِ وفي لُهاثِ الشمس. صنعَهم على صورتِه هو. أعطاهم من الفولاذِ صلابتَه، ومن الرياحين طراوتَها واستقامةَ عودها. أولئك الذين من أجلهم ومن أجلهنَّ عانى ما عاناه. هم وحدهم جديرون بعطائه وتضحيته، هم وحدهم سيكونون بحجم المسؤوليَّة القوميَّة المُقبلة. أمَّا جيلُه، "جيل الخِصيان" و"أشباه الرجال"، فليموتوا "مثلما عاشوا بلا تاريخ، مَوتى لا يحسُّون الهلاك." هؤلاء هم الذين فرضوا عليه ضعفَهم وخنوعَهم ودفنوا وجهَه "بوجه الفاجعة."
ويُسيِّجُ الشاعرُ نفسَه بأطفالِ الغَد، ومن أجلهم يحملُ صليبَه مُجدَّدًا، يَمتشقُ الرؤيا ويتزنَّرُ بالُحلم مرَّةً أُخرى، حُلمٍ بشرقٍ حديدٍ حُرٍّ وسيِّدٍ مُستقلّ.
لكنَّ حلمَه هذا ليس مُطلقًا، فدونه التحفُّظ وغصَصُ الاشتهاء. أتُراه يصدُق الوعدُ هذه المرَّة وينبتُ من حبِّه لأطفاله فارسٌ عربيٌّ جبَّار، يمتشقُ البرقَ ويمتطي الصاعقة، يصرعُ "الغول والتنِّين"، ويطردُ "الغُزاة مُعيدًا" للصحراء زهوَها وعزَّتها؟ ويتلو "الشاعرُ-الرائي" صلاةَ "القيامة" المرتقَبة مُفتتحاً باسم البطل الجديد الطالع من "دخان الصاعقة"، من وهج "الزوبعة" ورهبة البرق، باسم "الصُبحِ في صنّين"، باسم ذاته الجديدة التي صفَّت التاريخَ وأعادته إلى فطرتِه الأُولى، باسمِ الفجرِ والنور، ليحلَّ الخصبُ ويُثمر العقم. وما هذا النشيد في جوهره إلاَّ ترديدٌ "لاسم الآب، واسم الله الرحمن الرحيم" مازجًا الأُسطورة بالدِّين والإيمان. وتنتهي القصيدة بالتساؤل، فالشاعرُ يعرف أنَّ ما يطلبُه ليس أقلّ من مُعجزة:
فارسٌ يولَدُ من حبّي لأطفالي
وحبِّي للحياة
لتحلَّ المعجزات.
ربِّ ماذا؟
ربِّ ماذا؟
هل تعودُ المعجزات؟
ويبقى دون يقينه شكٌّ مُبرِّح.
ومع نشيد "الجسر" يبدأ الشعورُ بالاكتفاء والارتياح. هنا يرتاح الشاعرُ إلى الأجيال الجديدة، ويطمئنُّ إلى أنَّهم بدأوا مسيرةَ البعث الحقيقيَّة. لقد تحقَّقت المعجزةُ التي تساءل عنها لتوِّه، وغدا الشكُّ يقينًا. فلا "بومة التاريخ" ولا مَوروثاتُ الأمس ودَنَسُه تستطيع الوقوفَ في وجه الطليعة الجديدة. لقد أنجزَ الشاعرُ مَهمَّتَه، وخُيِّلَ إليه أنَّه كان سبَبًا لولادةِ نسلٍ مُتفوِّق، فيشعرُ بنشوةِ الاكتفاء، ولو إلى حين.
ولكن كما نعرف، نحن الذين عاصرنا حاوي وعاصرنا المرحلةَ الوجوديَّة التي عاناها شرقُنا وما يزال، أَنَّ نعمةَ الاكتفاء هذه لم تَدم طويلاً، وأنَّ حاوي الذي عانى ما عاناه، وحلمَ بالآمال الكبار، انتهى إلى خيبةٍ لا تُطاق. فمن "نهر الرماد" عَـبَرَ إلى "بيادر الجوع"، وأدماه "الرعدُ الجريح"، فهبط إلى "جحيم الكوميديا" الذي لا يُشرف على مَطهر ولا يتطلَّع إلى فردوس. وكان لا بُدَّ له، في نهاية المطاف، من الإبحار مع سندباده في رحلته الأَخيرة –التاسعة– عبرَ قصيدةٍ لم يعشْ ليكتبَها بالحبر، بل حبَّرها بالدم.
نهايةُ حاوي المأساويَّة الأليمة كانت متوقَّعة، ولم يكن بدٌّ من أن تنتهي هذه التجربة الفريدة في تاريخنا وشعرنا إلاَّ بهذا السَفرِ العنيف الذي هو وحده بحَجمِ الحبِّ العنيف الذي عاناهُ الشاعر تجاه أُمَّته ومُعاصريه.
المراجعُ والإيضاحات
1. M. M. Badawi. A Critical Introduction to Modern Arabic Poetry (Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1975), pp. 245-246.
2. أنظر "الرعد الجريح"، ص 420.
3. "ديوان خليل حاوي" (طبعة 1972)، ص 89-98.
4. المصدرُ السابق، ص 101-105. كلُّ الاستشهادات مُقتبَسة من هذه القصيدة.
5. يُمكنُ المقابلة هنا بين غُربة حاوي وغُربة جبران. فربَّما استفاد حاوي من مقدِّمة "النبيّ" حيث يُطلُّ البطلُ (النبيُّ المصطفى) علينا مسكونًا برغبةٍ مُلحَّة للعودة إلى وطنه. لاحِظْ مثلاً أنَّ حنيَن المصطفى قد تحقَّق بقدوم السفينة وعليها بحَّارةٌ من بلاده جاءوا لِحَمله، بينما بقي حنينُ حاوي تمنّيًا ورجاءً يعيشُ في مُخيِّلته. بقيت رغبتُه تضرُّعًا للنجاة من ذُلِّ المنفى-الموت ومعانقةِ الوطن-الحياة.
6. "ديوان خليل حاوي" (طبعة 1972)، قصيدة "عودة إلى سدوم"، ص 121-122.
كثيرًا ما آلم حاوي تطفُّلُ "الشويعريِّين" على الشعر، خاصَّةً في زمن الحرب اللبنانيَّة الأخيرة وقبلها. وهو الذي كان أقام "للكلمة حرمة" و"للشاعر مقامًا". فطالما وقف في "المؤتمرات واللقاءات بين الشعراء والنقَّاد" يصيح بِمِلءِ فيه ويطردُ "اللصوص والمشعوذين والمُدَّعين من هيكل الشعر." أنظرْ مقال ميشال جحا في "النهار"، 10 حزيران 1982. وربَّما كان هذا واحدًا من العوامل التي أسهمت في إطالة صمتِه المؤلِم في الفترة الأخيرة قبل وفاته.
أُسلوبُا ومضمونًا (2):
البطَلُ سَببُ الانبعاثِ الأصيل والخصبِ والفداء ورمزُ الخلاص
يتميَّز خليل حاوي في شعرِه ، خاصَّةً بين شُعراء المُعاصَرة الرُوَّاد جميعهم، بمفهومٍ فريدٍ لدَور البطل الفاعلِ حقًّا في عمليَّةِ الانبعاثِ الحقيقيّ. وكثيرًا ما يُصبحُ التمييزُ بين دَورِ البطل ودَورِ الشاعر صعبًا ودقيقًا للغاية، لأنَّ حاوي، ولا شكّ، اعتبر الشاعرَ بطلاً بالدرجة الأُولى. وحين نُحاولُ أن نُفرِّقَ بين الاثنَين، أو أن نرسمَ علاماتٍ فارقةٍ لكلٍّ من هاتَين الشخصيَّـتَين على حِدة، إنَّما نفعلُ ذلك وفي ذاكرتنا قولُ الشاعر نفسِه: "أيصحُّ عبرَ البحرِ تفسيخُ المياه؟" فالأمرُ ليس بهذه السهولةِ مُطلقًا.
شعرُ خليل حاوي مسكونٌ بالرموز المسيحيَّة التي تُعبِّر عن شفافيَّةٍ لاهوتيَّة ونظرةٍ مسيحيَّةٍ للكَون رغمَ أنَّ الشاعرَ يُؤكِّد أنَّه لا يستعملُ هذه الرموزَ لمُحتواها العقائديّ الدينيّ، بل لأنَّها بحدِّ ذاتها لها أهمِّـيَّةٌ عالَميَّة كنماذجَ عامَّة لتفسير المظاهر الوجوديَّة المُتَّفَق عليها. إضافةً إلى هذه المُؤثِّرات العميقة في ثقافته، فحاوي مُتأثِّرٌ بالفلسفة الإسلاميَّة بوجهٍ عامّ، والتوفيقِ بين العقل والإيمان عند الغزالي وابن رشد من مُنطَلقٍ فلسفيٍّ مُستندٍ إلى نظريَّاتِ كانْط المثاليَّة. ثمَّ جاءت أُطروحتُه عن جبران خليل جبران لتُعمِّق اطِّلاعَه على الأدبَين الإنكليزيّ والأمريكيّ، إضافةً إلى قراءاته الدائبة للرومانسيِّين الفرنسيِّين، كما لبودلير Baudelaire وسانت جون برس Saint-John Perse، ولشكسبير والرومانسيَّة الإنكليزيَّة، ثمَّ ليـيتس Yeats W. B. وإليوت T. S. Eliot. هذا إضافةً إلى شُعراءِ المَهجر وإلياس أبي شبكة، مرورًا بالميثولوجيا القديمة، خاصَّةً الكنعانيَّة والبابليَّة واليونانيَّة. لهذا لا يستغرب الناقدُ مثلاً أن يرى حاوي مشغولاً بهُموم العقل والإيمان في قصيدته الأُولى في "نهر الرماد": البحَّار والدرويش.1
يُطالعُنا البطلُ عند حاوي في القصيدةِ المُشار إليها مُشتَّـتًا، متوزِّعَ الذهن بين حقائق العلم وإحساسات التصوُّف. هو مُبحِرٌ يُعاني:
دُوارَ البحرِ
والضوءَ المُداجي عبرَ عَتْماتِ الطريقْ
ومدى المجهول ينشقُّ عن المجهولِ
عن موتٍ مُحيقْ...
إنَّها حيرةُ الإنسانِ المُعاصِر وتساؤلاتُه المُضنِية. والبطلُ هنا هو البحَّارُ الراحلُ في مَتاهاتِ الغُربةِ الوجوديَّة، هو "الإنسانُ الغربيُّ" عامَّةً، سليلُ "عوليس" Ulysses و"فاوست" Faust و"هكسلي" Hexley، أو تُراه الشاعر نفسه الذي سارَ على خُطواتهم في الرحلةِ نحو "اليقين"؟ وأيًّا يَكُن، يُطلَّ البطلُ علينا ضائعًا، مُرهَقًا، خائبَ الأمل: فلا العلمُ ساعدَه ولا المنطقُ خلَّصَه، ولا التنقيبُ العلميُّ أسعفَه، ولا حتَّى البطولة نجَّته. نراهُ مُتوجِّهًا إلى ضفاف "الكَنج"، منبتِ التصوُّف، فماذا كانت النتيجة؟ لم يَـرَ غيرَ طين ميِّت هنا، وطين حارّ هناك، وطينٍ بطين.
هذا البطلُ المأساويُّ المُعاصِرُ الذي يَقبعُ في داخل كلٍّ منَّا مكتوبٌ عليه أن يُجابهَ الوجودَ وحيدًا. إنَّها سمفونيَّةُ القلقِ الوجوديِّ الرهيب، معزوفةُ زمانِنا المشحون بالتوتُّر والتشنُّج والضَياع. وييأسُ البحَّار، فلا الشرقُ العقيمُ يُرضيه، ولا الغربُ الغارقُ في تعقيداتِ الفكر والمادَّة يحلُّ أزمتَه النفسيَّة. لذلك، يبقى في آخرِ القصيدة وحيدًا تائهًا يُواجِهُ مَصيرهُ المجهول دون التوصُّل إلى يقينٍ أو خلاص:
خَلِّني أَمضي إلى ما لستُ أدري،
لن تُغاويني المواني النائياتْ،
بعضُها طينٌ مُحمَّى،
بعضُها طينٌ مَواتْ.
آهِ كم أُحرِقتُ في الطينِ المُحمَّى!
آهِ كم متُّ مع الطين المَواتْ!...
خلِّني للبحرِ، للريحِ، لموتٍ
ينشرُ الأكفانَ زُرقًا للغريقْ،
مُبحِرٌ ماتت بعَينَيه مناراتُ الطريقْ،
ماتَ ذاكَ الضوءُ في عَينيه ماتْ،
لا البطولاتُ تُنجِّيه، ولا ذلُُُّ الصلاةْ.
أمَّا البطلُ الحقيقيّ، البطلُ المُخلِّص، الطالعُ من وهج الأُسطورة الانبعاثيَّة، فنلحظُ خصائِصَه المميَّزة، لأوَّل مرَّة، في قصيدة "بعد الجليد". يُمهِّدُ حاوي لقصيدته هذه فيقول: "في هذه القصيدة التي تُعبِّرُ عن مُعاناة الموت والبعث، من حيث هي أزمةُ ذاتٍ وحضارة وظاهرة كونيَّة، يُفيدُ الشاعرُ من أُسطورة تمُّوز وما ترمزُ إليه من غلبة الحياة والخصب على الموت والجفاف، ويُفيدُ من أُسطورة العنقاء التي تموتُ ثمَّ يلتهبُ رمادُها فتحيا ثانيةً."
نُلاحظ هنا أنَّ الشاعرَ لم يتوصَّلْ إلى خَلقِ بطَلِه الحقيقيّ بعد، فنراه "يُفيدُ" من بطل الأُسطورة، يستخدمُه في شعره حتَّى تستقيمَ له القدرةُ والتجربةُ على خَلقِ بطلٍ جديد، وإن يَكُنْ أُسطوريَّ الملامح، إلاَّ أنَّه خاصّ برُؤياه هو، وحقيقيّ، تتجلَّى في طلعتِه "صفوةُ الأصالة العربيَّة، تتخطَّى ما تتّصفُ به ذاتُه من عفَّةٍ وكرامةٍ وفِداء يتجسَّدُ في التاريخ فيكون الانبعاثُ العربيُّ الأصيل."1
هنا لا يعنينا كَونُ تمُّوز رمزَ البَعثِ وإلهَ الخَصب بقدرِ ما يهمُّنا أنَّ الشاعر جمعَ في شخصيَّة تمُّوز-البَعْل خلاصةَ مفهومِه للبطل الفادي-المخلِّص الذي على صورته هو يُريد أن يبنيَ جيلاً جديدًا من الفُرسان الميامين.
قبل تَخطِّي الجليد علينا أن نمرَّ في "عصر الجليد" حيث تموت عروقُ الأرض وتَيبسُ الحياةُ في عروق أهلها "لحمًا قديدًا"، فلا أملَ بالنجاة. إنَّه "الموتُ الأكيد" كما يُعانيه الشاعر، فيروحُ يُناشدُ الإله-البطل مُرتجيًا الخلاص. إنَّه نداءٌ أو ابتهالٌ هو، فيما هو، "كنائسيّ" يُعرَفُ "بالمدائح" فيه يُردِّدُ المُصلِّي جملة "يا ربُّ ارحَمْ" ثماني مرَّات. وهكذا تكتسي تضرُّعاتُ الشاعر حلَّةَ الطقوس "الكَنَسيَّة الأُرثوذكسيَّة" في جدِّيـَّةٍ بالغة. ويمزجُ بين أُسطورة تمُّوز والمُعطَياتِ المسيحيَّة كما نُلاحظُ من المقطع التالي، مع الإشارة البارزة إلى أنَّ حرفَ النداء "يا" قد استُخدِمَ ثماني مرَّات على طريقة الابتهالات أو المَدائح في مُخاطبة رمز "تمُّوز–المسيح":
يا إلهَ الخِصبِ، يا بعلاً يفضُّ
التربةَ العاقرَ،
يا شمسَ الحصيدْ،
يا إلهًا ينفضُ القبرَ
ويا فصْحًا مجيدْ،
أنت يا تمّوز، يا شمسَ الحصيدْ،
نَجِّنا، نجِّ عروقَ الأرضِ
من عُقْمٍ دهاها ودَهانا...
أنت يا تمُّوز، يا شمسَ الحصيدْ...
باركِ النسلَ العتيدْ،
باركِ النسلَ العتيدْ،
باركِ النسلَ العتيدْ،
يا إلهَ الخَصب، يا تمُّوز، يا شمسَ الحصيدْ.2
فتمُّوز هنا هو "شمسُ الحصيد"، كما إنَّه "عيدُ الحصاد" في نشيد "الجسر"، يفضُّ التربةَ العاقر، يُخصِبُها. والمسيح هو "الفصح المجيد" الذي ينفضُ القبر وينتصر على الموت. هكذا يجمع البطلُ في ذاته صفاتِ الخصب والبعث والقيامة والحياة. لكنَّ الصلاةَ في "نهر الرماد" بقيَت "شهوةً" و"عبَثًا" ليس إلاَّ. والتضرُّعُ والبكاءُ والتحدِّي لم تكُن لتنفعَ إطلاقًا. ففي المقطع الذي يلي مباشرةً يُردِّدُ الشاعرُ لفظة "عبثًا" خمسَ مرَّات تأكيدًا لاستحالة البعث والتجدُّد:
عبثًا كنَّا نُصلِّي ونُصلِّي...
عبثًا نعوي ونعوي ونُعيدْ...
عبثًا كُنّا نهزُّ الموتَ...
عبثًا نغتصبُ الشهوةَ حَرَّى
عبثًا نسكبُها خمرًا وجمرَا...
فالبعثُ لا يتحقَّق إلاَّ بنَفْضِ الأعماق، بضَربِ الجذورِ واقتلاعِ الفسادِ من شروشِه. ولِمَن يُصلِّي الشاعرُ حتَّى الآن؟ ومن أجلِ مَن؟ أليس من أجلِ "الموتى الحزانى، والجلاميدِ العبيد"؟ وهل هم أهلٌ للصلاة والقيامة؟ طبعًا لا. لكنَّ الشاعرَ لم يُدركْ هذا بعد. فالمُراد أن يُولَدَ جيلٌ جديدٌ من الفُرسان الأبطال على صورةِ تمُّوز وكمالِه. وهذا هو العاملُ المُهمُّ والفرقُ الأساسيُّ في تطوُّرِ مفهومِ "الخَلق" والولادة والبَعث بين آلهةِ اليونان مثلاً والإله الواحد العِبريّ-المسيحيّ. فبينما صنعَ اليونانُ والكنعانيُّون وسواهم آلهتَهم على صورتهم هم، وزوَّدوهم بخصائصَ ونزواتٍ بشريَّة، خلقَ "اللهُ الواحد" البشرَ على صورته ومِثالِه هو. وهكذا يجبُ أن يكونَ الجيلُ الجديد الذي يُريدُه الشاعرُ على صورة البطَل-الإله المُبدِع. ولهذا فقد كانت الصلاةُ عبَثًا. وما دام "ميثاقُ البعث الجديد" لن يتمَّ بدون فِعلِ فداء، فقد تحتَّمَ على الشاعر أن يُضحِّيَ بنفسه قبل أن يحصلَ البعثُ وتتحقَّقَ القيامة. لذلك جاءت الصلاةُ تضرُّعًا فبُكاءً ثمَّ "عُواءً"، وسقطَ "التحدِّي"، لأنَّه جبانٌ لا رجولةَ فيه، ولا صلابة، ولا بطولة. وكانت النتيجة صنوًا للهزيمة:
وارتَمَينا جُثَـثًا، لحمًا حزينًا
ضَمَّ في حسرتِه لحمًا حزينَا
ضمَّ في حسرتِهِ لحمًا قَديدْ...
ظلَّ البعثُ استحالة، شهوةً في ضمير "الأرض الخراب"، لأنَّ البومةَ لا تَلِدُ نسرًا، وبالتالي لأنَّ الجيلَ الذي "سينفضُ الموتَ ويغلُّ الريح" لن "يُفرِّخ من أنقاضنا"، وإلاَّ سيكونُ جيلاً من "الموتى الحزانى... تتمطَّى في فَمِ الموتِ البليد". ومهما صرخ الشاعر: "حبُّنا أقوى من الموت العنيد"، فالواضحُ أنَّ الحبَّ وحده لا يكفي لإيقاد الثورة وتحقيق البعث. فهذا تَمَنٍّ جبان، مُتلوِّن، وآنيّ، تُعوِزُه مُطلقيَّة الحبّ المُكتفي بذاته؛ ينقصُه صفاءُ الحبّ الأصيل والتزامُه وعنادُه؛ تنقُصه التضحيةُ الكُلِّيـَّة وشموليَّةُ التجربة والمعاناة.
اللوحةُ الثانية: رجاءُ القيامة "بعد الجليد"
تُعتَبَرُ هذه اللوحةُ من أروعِ ما كتبَ حاوي عن مفهوم "البعث" كشاعرٍ "تموُّزيّ" رائد، حيث يتجلَّى فيها، وبشكلٍ ممتاز، استخدامُه الناجح جدًّا للأُسطورة القديمة. فشهوةُ القيامة، وإن هي ضعُفَت وشحُبَت، غير أنَّها بقيتْ "رعشة" تختلجُ في أَعصاب الصقيع، يُداريها نسلٌ يائسٌ في عروقه، وتحلمُ بها الأرض، وإن يكُن تحت حصار الثلج واليباب. إنَّها توقٌ قتَّالٌ "للشمس" والغَيث "، للبذار... والغلَّة":
للإلهِ البَعلِ، تمُّوز الحَصيدْ
شهوة خضراءَ تأبى أن تَبيدْ
ومع الشهوة حنينٌ موجِعٌ ونَبْضٌ مؤلِمٌ يسري في جسدِ الأرض مُتسرِّبًا إلى عروق المدفونين في جوف القبر يحرُّ أعصابَهم ويؤلمُها:
موجِعٌ نبضُ الدمِ المحرورِ
في اللحمِ القديدْ
إنَّه زمنُ الوَجَع والمعاناة المخنوقة. وهنا يُفيدُ الشاعر، كما سبقَ وأوضحَ لنا، من أُسطورة العنقاء، فيصرخ من تحت الجليد "ربَّاه" أَرسِلِ النار "تتغذّى من رمادِ الموتِ فينا" تُحرِقُنا في جحيمها المُستعِر، تُطهِّرُنا وتصهرُنا، تُحرقُ فينا كلَّ عيبٍ وتخاذُلٍ وانكسار، عَلَّنا ننهضُ من رمادنا أُمَمًا حُرَّةً جديدةً تنفضُ عَفنَ التاريخ:
واللعنةَ، والغَيبَ الحزينا
تنفضُ الأمسَ الذي حجَّر
عينَيها يواقيتًا بلا ضَوءٍ ونارْ
وبُحيراتٍ من الملحِ البوارْ...
"أُمَمٌ" تنسفُ الماضي وترتفعُ مُجدَّدًا حُرَّةً، أبيَّة، تنمو تحت الشمس المضيئة بلا خجلٍ ولا عار. تقفُ صفًًّا واحدًا، تزهو وتُصلِّي بعد أن قبلَتْ معموديَّةَ النار وتطهَّرت بالاحتراق التامّ من دنَسٍ كان اعتراها. إنَّها ولادةٌ جديدة حقًّا لرجالٍ "أقوياء الصُّلبِ نسلاً لا يَبيد". وبتأكيدٍ توراتيٍّ واضحٍ يُصرُّ الشاعر في صلاته على أنَّ أَحفادَه سوف "يَرِثون الأرضَ للدهر الأبيد". ثمَّ يعود إلى الطقوسيَّة الكَنَسيَّة في ابتهالٍ يختمُ به قصيدَه:
باركِ النسلَ العتيدْ
باركِ النسلَ العتيدْ
بارك النسلَ العتيدْ
يا إلهَ الخصبِ، يا تمُّوز، يا شمسَ الحصيدْ.
الاعتقادُ الراسخُ هنا أنَّ البعثَ لم يتمَّ فعليًّا بعد. بل إنَّه بقيَ فعلَ تمنٍّ ورجاءٍ بالقيامة المقبلة. إنَّها رغبة مُلحَّة تنقصُها الإرادةُ الصلبة المُلتزمة. تُعوِزُها بعدُ "تضحيةُ" الشاعر نفسَه على مذبحِ الأُمَّة.
في النشيد التالي تصعيدٌ وجوديٌّ سيكولوجيٌّ لمفهوم الحبّ الذي كان حُبًّا جبانًا، آنِيًّا لا يعرفُ التجربة الحيَّة، ولا هو تطهَّرَ في أتُّونِ الشوقِ ومصهرِ الحنين. في النشيد الجديد يصفو الحبُّ ويستحيلُ إلى فِعلِ فداءٍ مصلوبٍ على جلجلة الغربة. في قصيدة "حبّ وجلجلة"3 نُعاين الشوقَ المحرقَ للعودة إلى الوطن حيث يتيقَّن الشاعرُ هنا من أهمِّيـَّة دَوره في عمليَّة الإنقاذ، ويتفهَّمُ ضرورةَ رجوعه وحتميَّة حضوره الفاعل.
يكتبُ حاوي عن المنفى، من صومعة كَمبرِدج ذاتها، حيث بينه وبين قومه بحارٌ ومسافات:
وأنا في وحشةِ المنفى
مع الداء الذي ينثرُ لحمي،
ومع الصمتِ وإيقاعِ السعالْ،
أنفضُ النومَ لعلِّي أتَّقي
الكابوسَ والجنَّ التي تحتلُّ جسمي،
وإذا الليلُ على صَدري جلاميد،
جدارُ الليل في وجهي
وفي قلبي دخانٌ واشتعالْ...
مرَّةً ثانية، يصرخُ من القبر المتجمِّد "آه ربِّي"، يضرعُ للإله. واضحٌ أنَّ المنفى عند حاوي يُعادل القبر، والوحدةَ تُعادل الموت، وأنَّ الأنا الفرديَّة في انفصامها عن الذات الجماعيَّة تعيشُ في واقعٍ لا طبيعيٍّ مُرعِب: "صوتُهم يصرخُ في قبري تَعالْ." هم أهلُه وأبناؤه "وأطفال أترابه"، يسمعُهم ينادونه مُطالبين بعودته إليهم.4 كيف لا يُلبِّي نداءَهم وهم أبناء حنينه. هنا، مرَّةً جديدة، يتَّحدُ الشاعرُ والبطلُ الأُسطوريّ، أحدُهما يتقمَّص الآخر؛ وتتمُّ عمليَّةُ الانحدار إلى جحيم المُعاناة والقهر في قفزةٍ ملحميَّةٍ ضروريَّة. فالتطهُّرُ من دَنسِ الغربة والتخلُّص من ذنب الانفصال عن الجماعة والقوم إلزاميّ. وتستيقظ في ذات الشاعر أحاسيسُ البطولة المُنقِذة، فينفضُ عن صدره بلاطةَ القبر ويصرعُ الوجعَ والموت، ويخطو نحو الحياة:
كيف لا أنفضُ عن صدري الجلاميدَ،
الجلاميدَ الثقالْ؟
كيف لا أصرعُ أوجاعي ومَوتي؟...
وفي لحظةٍ بطوليَّةٍ يستنجدُ بالإله-البَعْل، البطلِ الحقيقيّ الذي يُخَيَّلُ إلى الشاعر أنَّه يتقمَّصُ دورَه وشخصيَّتَه:
رُدَّني، ربّي، إلى أرضي،
أعِدني للحياة.
إنَّها دعوةٌ صادقة وعودةٌ غير مشروطة. فهناك تنتظرُ البطلَ مصاعبُ وهمومٌ جِسام يعلمُها هو حقَّ العلم. فأرضُه ما زالت ميتةً تحت الجليد، وقومُه يتحكَّم بهم الطغاةُ الغاشمون الذين سيصلبونه الآن بعد أن كانوا بالأمس قد اكتفَوا بجَلده:
وليكنْ ما كان، ما عانيتُ منها
محنة الصلب وأعياد الطُّغاةْ.
ولكنْ ما همَّ، فموتُه يتراءى له كفيلاً بإعادة المواسم والوعود. فهناك سيلقى كلَّ مَن أحبَّ، مَن هم سببُ وجودِه واستمراريَّةِ مُعاناتِه وانتصارِه، مَن هُم أهلٌ لحنينه وأُمنياته وبعثه. سيتجسَّدُ الحلمُ، ويورق الوعدُ، وتُستجابُ الصلاة:
لشبابٍ وصبايا
من كنوز الشمس، من ثلجِ الجبالْ
لصغارٍ ينثرون المرجَ
من زَهْوِ خُطاهم والظلالْ...
هؤلاء هم "الطليعةُ الجديدة"، الجيلُ الجديد، الذي تصوَّره وحلمَ به في مَنفاه. من صُلبِه سيخرجون على صورة البطلِ-البَعل. وهكذا يستمرُّ تصلُّبُ الإرادة الحيَّة وتصعيدُ الموقف الطالع من مصهر الأُسطورة وزخمِ الواقع. إنَّه انتصارُ البطل على الموت والشاعرِ على الغربة. ومن بين المعاني البعيدة التي تحملُها هذه اللوحة، معنى حضور الوطن في ذات الشاعر قُدسًا دائمًا نافذًا حتَّى الأعماق مُتغلغلاً في كيانه حتَّى الجذور. فيبدأ مشوارُ العودة، ويُرنِّمُ الشاعرُ ترتيلةَ تمُّوز يؤنِسُ بها غربتَه وسفرَه الطويل.
أنتمُ أنتُنَّ، يا نسلَ إلهْ
دَمُهُ يُنبِتُ نيسانَ التلالْ،
أنتم أنتنَّ في عمري
مصابيحُ، مروجٌ، وكفاهْ،
وأنا في حبِّكم، في حبِّكنَّ
-وفدى الزنبقِ في تلك الجباهْ-
أتحدَّى محنةَ الصلبِ،
أُعاني الموتَ في حُبِّ الحياهْ.
في طريقه من "كَمبردج" إلى الشرق ينزلُ إلى الجحيم مرَّةً أُخرى. إنَّه قدَرُ البطلِ الملحميّ في صراعِه الوجوديّ الدائم. هذا البطلُ الجديدُ الخالقُ لواقعِه وحضارته هو في صراعٍ مؤلِمٍ مع نفسه الرافضة لحضارة الغرب المادِّيَّة الزائفة، والثائرة، في الآن نفسه، على واقعِ الشرق المتعبِّدِ للخُرافات والأصنام. قصيدةُ "المجوس في أُوروبَّا" تُجسِّد هذه المُعاناة التي عرفنا بعضًا من خيوطها في "البحَّار والدرويش"، ولكنَّها هنا تتأزَّم بحدَّة وشراسة، إذْ يُصوِّرُ لنا الشاعرُ موقفَه المُتصلِّبَ الرافض للحضارة الغربيَّة:
ساقَنا النجمُ المُغامِرْ
عبرَ باريسَ، بَلَونا صومعاتِ الفكرِ،
عِفنا الفكرَ في عيد المساخرْ،
وبروما غطَّت النجمَ، مَحَتْهُ
شهوةُ الكُهَّان في جَمْرِ المباخرْ،
ثمَّ ضيَّعناه في لُندنَ، ضِعنا
في ضبابِ الفحمِ، في لُغزِ التجاَرهْ!...
إنَّها ليلةُ الميلاد، وليس من نجمٍ مُنيرٍ ولا إيمانٍ ولا "مغارة"، حتَّى إنَّ الرمزَ مُنعدمٌ في نفوس الأطفال "الأبرياء"! فالوقتُ نصف الليل، ساعةَ يُفيق الساحرُ اللعينُ على الشرِّ والرُعب، زارعًا الخيبةَ والإحباطَ في قلوبِ الأطفال والمساكين. في النفوس "ضيق" وحشرجة وترقُّب وحذَر. الشارع قفرٌ وفراغٌ مُوحٍ بالموتِ والعَدم. والضحكاتُ حزينةٌ باهتة دونَها رعشةُ التفاؤلِ والفرح. كلُّ هذا يُقدِّمُ صورةً معكوسةً لرحلة المجوس المثبَتة في "العهد الجديد". أولئك الملوك الذين غامروا خلف النجمِ إلى حيثُ الطفلُ المُخلِّص دخلوا مغارةً مُضيئةً بالحقِّ والنور والإيمان. ولكن إلى أين دخلَ البطلُ عند حاوي؟
لأنَّ الواقعَ معكوسٌ مُشَوَّه، أصبحَ الدخولُ "انحدارًا"، وصارت المغارةُ البريئة كهفًا للُّصوص وجحيمًا للذات اللعينة والشهوات الدنيئة. إنَّها خلاصةُ المَدنيَّة الغربيَّة الزائفة، حيث فقدَت الحضارةُ إيمانَها وطهارتَها وفطرتَها الأُولى. إنَّها تأريخٌ للحظةِ الإفلاسِ الحضاريّ، حيث نَرى الشاعرَ مَغلولاً في زنزانة التاريخ، وبتعبير الشاعر "أدونيس"، قد أسلَم أيَّامه للهاوية وحفرَ مقبرتَه في عينَيه وغدا سيِّدَ الأشباح التي عاشرَها ومنحَها اسمَه ولُغتَه، ووقفَ يرثي تاريخَ أُمَّته الكئيب المُتعثِّر الذي استحالَ أشلاءَ حروفٍ لا حُنجرةَ لها تتلاشى في ضمير الشاعر وتكبو على شفتَيه:
وانحدرنا في الدهاليزِ اللعينهْ،
لمغاراتِ المدينهْ،
أَعيُنٌ ترتدُّ عن بابٍ لبابٍ
أعينٌ نسألُها: أين المغارهْ؟
واهتدَينا بسراجٍ أحمرِ
الضوء لبابٍ
حُفرتْ فيه عبارَهْ:
"جنَّةُ الأرضِ! هنا لا حيَّةٌ تُغوي،
ولا ديَّانَ يرمي بالحجارَهْ
ها هنا الوردُ بلا شوكٍ
هنا العُريُ طهارَهْ.
وبرغم ما في هذا الجحيمِ الغربيِّ من دَعارةٍ وفسقٍِ وزَيفٍ وضياع، فالبطلُ-الشاعر وصَحبُه المجوس القادمون من الشرق ليسوا بأفضلَ من سكَّان هذا "الجحيم البارد". الواقع أنَّهم باتوا أكثر زيفًا ورياءً من أصحاب الكهف الضائعين. فصرخ هؤلاء في وجوه المجوس الجُدد:
إخلعوا هذه الوجوهَ المُستعارَهْ
سُلِخت من جِلدِ حرباءَ كريهْ...
ويتألَّمُ الشاعرُ-البطل لأنَّه الآن وَعَى أكثرَ فأكثر واقعَهُ المَهين الكريه. فيُجيبُ بحسرةٍ وتفجُّعٍ أنَّه وصحبَه لم يتقنَّعوا ولم يتطرَّوا. هذه حقيقتُهم المُجرَّدة، وهذا واقعُ حالهم. ويسأل أهلَ الكهف "الحضاريّ" أن يقبلوهم كما هم:
نحنُ لم نخلعْ ولم نلبسْ وجوهْ
نحنُ من بيروت مأساةٌ، وُلِدنا
بوجوهٍ وعقولٍ مُستعارَهْ
تولَدُ الفكرةُ في"السوقِ" بغيًّا
ثمَّ تقضي العمرَ في لَفْقِ البَكارهْ...
فسُمحَ لهم ودخلوا في ليل "المقابر". إنَّه الدخول في موت الحضارة وانعدامها وفنائها. هنا التاريخُ حُطامٌ ويبَاس. صورةٌ أكيدةٌ عن الحياة في الموت، أو بالأحرى، الموتِ في الحياة. تبهرُهم الحضارةُ الزائفة ويغرقون في اللذَّات الجسديَّة، يعبُّون خمرَ الخطيئة، فينسَون مُهمَّتهم وواقعهم، كأنَّهم رجالُ أُوديسيوس (عوليس) أكلوا "زهرة اللوتس" وعاشوا في وهم النسيان الجميل. "واتَّحدنا عصَبًا، قلبًا، دماء"، وآمنوا ولو كذبًا بأنَّهم "في جنَّة الأرض... إنَّ في الأرض السماء..." واستحالَ الطفلُ الإلهيُّ في مغارة البراءة إلى "ساحرٍ" لعين، وصارت عجائبُه السماويَّة سحرًا، كيمياء، وعِلْمًا شيطانيًّا. فسجد "المجوس" له، لطفلٍ سُفليٍّ زائف. خدعَهم "عدوُّ المسيح"، المسيحُ الدجَّال، الذي صوَّر لهم الجحيمَ جنّةً أبديَّة، والدهاليزَ اللعينة نعيمًا مُرتقَبًا:
وعَبدناه إلهًا يتجلَّى في المغارَهْ...
يتخفَّى في المغارَهْ:
في كهوفِ العالَمِ السُّفليِّ
من أرضِ الحضاَرهْ.
لكنَّ الشاعر، وإن يكُنْ على وهن، يظلُّ مُتمسِّكًا بخيطِ الإيمان، موقنًا بأنَّ قدَره غيرُ هذا، وأنَّ ساعتَه لم تأتِ بعد. وفيما البطلُ الوجوديُّ يُعاني هذه التجربةَ الانهزاميَّةَ المَريرة في مُحاولةٍ لاكتشاف ذاتِه وأصالته، يمرُّ بتجربةِ إلهٍ كاذبٍ في مواخير أُوروبَّا التي تحيا الليلَ في سراديبِ الرذيلة تهرُّبًا من ذاتِها وواقعِها. وبينما هو يُصارع "الحوتَ... والوحشَ... والتنّين"، يغتسلُ بنارِ حنينِه وشوقِه، يتصفَّى، يتطهَّرُ ويُقاومُ الرغباتِ والنـزعاتِ في ذاته لكي يتمَّ له وبهِ فِعلُ الخلاص، إذا بقومِه قد عادوا إلى ما كانوا عليه من طُرُقِهم السالفة المنغمسة في أوحالِ الدنَسِ والعارِ والعبوديَّة. وينظرُهم البطلُ من البعيد، تتأَكَّلُه اللوعةُ والمرارة، فهم عبيدُ شهواتهم، وشاعرُهم عبدٌ مُراوِغ بدلَ أن يحملَ مشعلَ الهُدى والفداء، تَراه يُشترى ويُباع ويُساوم:
لم يزلْ شاعرُهم ينسلُّ من جَيبٍ
لجيبٍ خلفَ دينارٍ صغيرْ
ثمَّ يزهو، يتشهَّى، يستعيرْ
لصريرِ الفأرِ في أمعائه
من ضميري صوتَ عملاق الضمير.5
وإذا بفتاتهم مومسٌ عاهرة:
بِنتُهم تستمرئُ النابَ الذي يغرزُ
في البضِّ الحريرْ
وليكنْ نابَ خَصِيٍّ
إن يكُنْ نابَ أَميرْ...
وإذا رجالُهم "لصوص"...
يخجلُ الشاعرُ من هذا الواقع المُفجِع حيث التقاليدُ المُتهرِّئة والعقليَّاتُ الموروثة المتحجِّرة: "أطمار أبي، عُكَّازه"، وحيث أهلُه وإخوتُه عبيدٌ للجهل، ضاعت هويَّتُهم وضعفَ انتماؤهم:
نسلُ السبايا
خلَّفَتهم غزواتُ الشرقِ والغربِ
لصوصًا وبغايا
خِرَقًا، ممسحةً في فندقِ الشرقِ الكبيرْ...
أمَام هذه الفاجعة وهذا العُقم واللامُبالاة العابثة ينتفضُ الشاعر مُمتشقًا غيظَه سيفًا من نار؛ إنَّه بروميثيوس، واهبُ النار، عاد بعد أن رمى ماضيَه وتاريخه وكلَّ ما حَوتْه ذاكرتُه الفرديَّة والجماعيَّة من موروثٍ بالٍ في "نهر الرماد"، فهو إنَّما يتطلَّعُ إلى الجديد البِكْر ليس إلاَّ:
عدتُ في عَينيَّ طوفانٌ من البرقِ
ومن رَعدِ الجبالِ الشاهقَهْ،
عدتُ بالنار التي من أجلها
عرَّضتُ صدري عاريًا للصاعقهْ،
جَرَفتْ ذاكرتي النارُ، وأمسي
كلُّ أمسي فيكَ، يا نهرَ الرمادْ،
صلواتي سِفرُ أيَّوبٍ، وحُبِّي
دمعُ ليلى، خاتمٌ من شهرزادْ
فيك يا نهرَ الرمادْ...
ويستمرُّ بركانُ غضبِه في تدفُّقه الفظيع، لا يُبقي ولا يذَرُ ولا يرحم، "وليمُتْ مَن مات بالنار" في فندق الشرقِ الفاجر، في "البيت المجرَّب" حيث تسكن خفافيشُ الماضي وخُرافاتُه، "أطمارُ أبي، عكَّازُه... نسلُ السَبايا...لصوصًا وبغايا... خِرَقًا، مِمسحةً في فندق الشرق الكبير." ويتفجَّرُ غيظُه في لوحةٍ ملحميَّة الأبعاد، فيرميهم غيَر آسِفٍ ولا نادم، بالصاعقة، بالطوفان، وهو عارفٌ تمامًا مَدى سطوةِ اللعنةِ التي يرشقُهم بها ويصرخ في وجوههم: "لن أبكيكَ يا نسلَ سدوم- لن تموتَ الأرضُ إن مُتُّم، لها بَعلٌ إلهيٌّ قديم،" وحدَه قادرٌ على ولادةِ المُعجزة، فيمحو نسلَكم الذي ملأَها بالعُقم، ويُباركُها، ويمنحُها نسلاً جديرًا به.
يستدركُ الشاعر، وتهدأُ في صدرِه عاصفةُ النقمة، فيتساءل:"ما الذي أبقَتْ عليه النارُ من بيتي، وأتعابي، ومن تاريخ عمري؟" ويا لروعة الجواب! فجأةً، يحسُّ الشاعر برعشةٍ ربيعيَّةٍ في قلبه الحزين، بخفقةٍ طريَّةٍ تحت رماد المحرَقة؛ ويُعاين، في ما يُعاين، فوق معابر (الجسر)، إذْ يتطلَّعُ نحو الأفقِ الجديد، يُعاينُ ابتساماتِ الصغارِ السُّمر، أطفاله وأبناء حنينه. أولئك الذين ولَدَتهم مخيِّلتُه أحرارًا جبابرة، ضحكاتُهم أطهرُ من النار المُقدَّسة، وأقوى من أعاصيرِ جنونِه وحقدِه. فيرتوي بنشوةِ الظفر، ويتذكَّرُ أنَّه طالما عانقَهم في مُخيِّلته، وطالما روَّضَهم في الريحِ والثلجِ وفي لُهاثِ الشمس. صنعَهم على صورتِه هو. أعطاهم من الفولاذِ صلابتَه، ومن الرياحين طراوتَها واستقامةَ عودها. أولئك الذين من أجلهم ومن أجلهنَّ عانى ما عاناه. هم وحدهم جديرون بعطائه وتضحيته، هم وحدهم سيكونون بحجم المسؤوليَّة القوميَّة المُقبلة. أمَّا جيلُه، "جيل الخِصيان" و"أشباه الرجال"، فليموتوا "مثلما عاشوا بلا تاريخ، مَوتى لا يحسُّون الهلاك." هؤلاء هم الذين فرضوا عليه ضعفَهم وخنوعَهم ودفنوا وجهَه "بوجه الفاجعة."
ويُسيِّجُ الشاعرُ نفسَه بأطفالِ الغَد، ومن أجلهم يحملُ صليبَه مُجدَّدًا، يَمتشقُ الرؤيا ويتزنَّرُ بالُحلم مرَّةً أُخرى، حُلمٍ بشرقٍ حديدٍ حُرٍّ وسيِّدٍ مُستقلّ.
لكنَّ حلمَه هذا ليس مُطلقًا، فدونه التحفُّظ وغصَصُ الاشتهاء. أتُراه يصدُق الوعدُ هذه المرَّة وينبتُ من حبِّه لأطفاله فارسٌ عربيٌّ جبَّار، يمتشقُ البرقَ ويمتطي الصاعقة، يصرعُ "الغول والتنِّين"، ويطردُ "الغُزاة مُعيدًا" للصحراء زهوَها وعزَّتها؟ ويتلو "الشاعرُ-الرائي" صلاةَ "القيامة" المرتقَبة مُفتتحاً باسم البطل الجديد الطالع من "دخان الصاعقة"، من وهج "الزوبعة" ورهبة البرق، باسم "الصُبحِ في صنّين"، باسم ذاته الجديدة التي صفَّت التاريخَ وأعادته إلى فطرتِه الأُولى، باسمِ الفجرِ والنور، ليحلَّ الخصبُ ويُثمر العقم. وما هذا النشيد في جوهره إلاَّ ترديدٌ "لاسم الآب، واسم الله الرحمن الرحيم" مازجًا الأُسطورة بالدِّين والإيمان. وتنتهي القصيدة بالتساؤل، فالشاعرُ يعرف أنَّ ما يطلبُه ليس أقلّ من مُعجزة:
فارسٌ يولَدُ من حبّي لأطفالي
وحبِّي للحياة
لتحلَّ المعجزات.
ربِّ ماذا؟
ربِّ ماذا؟
هل تعودُ المعجزات؟
ويبقى دون يقينه شكٌّ مُبرِّح.
ومع نشيد "الجسر" يبدأ الشعورُ بالاكتفاء والارتياح. هنا يرتاح الشاعرُ إلى الأجيال الجديدة، ويطمئنُّ إلى أنَّهم بدأوا مسيرةَ البعث الحقيقيَّة. لقد تحقَّقت المعجزةُ التي تساءل عنها لتوِّه، وغدا الشكُّ يقينًا. فلا "بومة التاريخ" ولا مَوروثاتُ الأمس ودَنَسُه تستطيع الوقوفَ في وجه الطليعة الجديدة. لقد أنجزَ الشاعرُ مَهمَّتَه، وخُيِّلَ إليه أنَّه كان سبَبًا لولادةِ نسلٍ مُتفوِّق، فيشعرُ بنشوةِ الاكتفاء، ولو إلى حين.
ولكن كما نعرف، نحن الذين عاصرنا حاوي وعاصرنا المرحلةَ الوجوديَّة التي عاناها شرقُنا وما يزال، أَنَّ نعمةَ الاكتفاء هذه لم تَدم طويلاً، وأنَّ حاوي الذي عانى ما عاناه، وحلمَ بالآمال الكبار، انتهى إلى خيبةٍ لا تُطاق. فمن "نهر الرماد" عَـبَرَ إلى "بيادر الجوع"، وأدماه "الرعدُ الجريح"، فهبط إلى "جحيم الكوميديا" الذي لا يُشرف على مَطهر ولا يتطلَّع إلى فردوس. وكان لا بُدَّ له، في نهاية المطاف، من الإبحار مع سندباده في رحلته الأَخيرة –التاسعة– عبرَ قصيدةٍ لم يعشْ ليكتبَها بالحبر، بل حبَّرها بالدم.
نهايةُ حاوي المأساويَّة الأليمة كانت متوقَّعة، ولم يكن بدٌّ من أن تنتهي هذه التجربة الفريدة في تاريخنا وشعرنا إلاَّ بهذا السَفرِ العنيف الذي هو وحده بحَجمِ الحبِّ العنيف الذي عاناهُ الشاعر تجاه أُمَّته ومُعاصريه.
المراجعُ والإيضاحات
1. M. M. Badawi. A Critical Introduction to Modern Arabic Poetry (Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1975), pp. 245-246.
2. أنظر "الرعد الجريح"، ص 420.
3. "ديوان خليل حاوي" (طبعة 1972)، ص 89-98.
4. المصدرُ السابق، ص 101-105. كلُّ الاستشهادات مُقتبَسة من هذه القصيدة.
5. يُمكنُ المقابلة هنا بين غُربة حاوي وغُربة جبران. فربَّما استفاد حاوي من مقدِّمة "النبيّ" حيث يُطلُّ البطلُ (النبيُّ المصطفى) علينا مسكونًا برغبةٍ مُلحَّة للعودة إلى وطنه. لاحِظْ مثلاً أنَّ حنيَن المصطفى قد تحقَّق بقدوم السفينة وعليها بحَّارةٌ من بلاده جاءوا لِحَمله، بينما بقي حنينُ حاوي تمنّيًا ورجاءً يعيشُ في مُخيِّلته. بقيت رغبتُه تضرُّعًا للنجاة من ذُلِّ المنفى-الموت ومعانقةِ الوطن-الحياة.
6. "ديوان خليل حاوي" (طبعة 1972)، قصيدة "عودة إلى سدوم"، ص 121-122.
كثيرًا ما آلم حاوي تطفُّلُ "الشويعريِّين" على الشعر، خاصَّةً في زمن الحرب اللبنانيَّة الأخيرة وقبلها. وهو الذي كان أقام "للكلمة حرمة" و"للشاعر مقامًا". فطالما وقف في "المؤتمرات واللقاءات بين الشعراء والنقَّاد" يصيح بِمِلءِ فيه ويطردُ "اللصوص والمشعوذين والمُدَّعين من هيكل الشعر." أنظرْ مقال ميشال جحا في "النهار"، 10 حزيران 1982. وربَّما كان هذا واحدًا من العوامل التي أسهمت في إطالة صمتِه المؤلِم في الفترة الأخيرة قبل وفاته.