صحيفةُُ "الرسالة" اللبنانيَّة المهجريَّة
بين يَديَّ ثلاثةُ مُجلَّداتٍ يَتيمةٍ لصحيفةٍ صَدرَتْ في ولاية نيويورك بين أَواسطِ العشرينيَّاتِ وأوائِل الأربعينيَّاتِ من القَرنِ العِشرين. وهذهِ الصحيفةُ المُسمَّاةُ "الرسالة" كانت، على ما يَبدو، مُعاصِرةً لصُحُفٍ ومَنشوراتٍ عَربيَّةٍ عديدةٍ ظَهرتْ في المهاجر وفَاقَتِ "الرسالةَ" شُهرةً وانتشارًا، لأنَّ القيِّمينَ على تلكَ الصُّحُفِ والكاتبينَ فيها كانوا أَعمقَ خِبرةً وأبعدَ صيتًا وأكثرَ قُدرةً في النواحي المادِّيـَّةِ والسياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ من القَيِّمينَ على "الرسالة". فنحنُ مَثلاً حين نتكلَّمُ على الصِّحافةِ المهجريَّة، نُسرعُ إلى ذِكر "كوكب أميركا" لإبراهيم ونجيب عربـيلي (1888)، و"الهُدى" لنعُّـوم مكَرزل (1898)، و"مرآة الغرب" لنجيب دياب (1899)، و"المُهاجِـر" لأمين الغريِّـب (1902)، و"السائح" لعبد المسيح حدَّاد (1912)، و"الفنون" لنسيب عَريضة ونظمي نسيم (1913)، و"السَّمير" لإيليَّا أبي ماضي (1929).
فـ"الهُدى"، مَثلاً، ما لبثَ صاحبُها أن نَقلَ مكاتبَها من فيلادِلفيا إلى مدينةِ نيويورك عام 1903، بالاشتراكِ مع أخيه سلُّوم مكرزل. وكانت "الهُدى" أوَّلَ جريدةٍ عربيَّةٍ تَقفزُ في نَقلةٍ نَوعيَّةٍ من الطباعةِ اليَدويَّةِ إلى الطباعةِ الآليَّة.[1] وهنا لا بُدَّ من التَنويهِ بإسهامِ سلُّوم مكَرْزل في تأسيسِ مجلَّةٍ أدبيَّةٍ مُهمَّةٍ بعنوان "العالَم السُّوريّ" The Syrian World؛ وقد صدرَت من العَام 1926 حتَّى العام 1932 باللُّغةِ الإنكليزيَّة. وخلالَ حَياتِها القصيرةِ التي لم تتعدَّ الستَّ سنوات، استطاعَتْ أن تَفخرَ بأقلامِ كُتَّابٍ زيَّنوا صفحاتِها بمقالاتٍ رائعة؛ منهم نَذكُرُ، على سبيلِ المِثال، جُبران خليل جُبران، ميخائيل نُعيمة، أمين الرِّيحانيّ، إيليَّا أبي ماضي، ووليَم كاتسفليس –معظمُهم من أعضاءِ الرابطةِ القَلَميَّة- إضافةً إلى المؤرِّخِ اللبنانيِّ فيليب حِتِّي.[2]
و"الفنـونُ" التي صـدَرتْ لخمسِ سنـواتٍ فقط (1913-1918)، وظهرَ منها 29 عَددًا، أسَّسها نسيب عَريضة كمجلَّةٍ أدبيَّةٍ تَصدرُ مرَّةً في الشَهر. وقد مدَّها جُبران بمقالاتهِ ورُسومهِ، وكتبَ فيها، إضافةً إلى نَسيب عريضة ونُعيمة والرِّيحانيّ وأبي ماضي وغيرِهم. وكانت تَنشرُ القصائدَ والمقالاتِ بالفُصحى فقط. ومَعروفٌ أنَّ صاحبَها اضطُرَّ إلى وَقفِ إصدارِها ثلاثَ مرَّاتٍ خلالَ سنواتِها الخَمس لعدَّةِ أسبابٍ، أبرزُها عَدم توافُر الوَرق للطباعَة، والافتقارُ إلى عُمَّالٍ من ذَوي الجدَارة، وعجزُه عن جَمعِ قيمةِ الاشتراكات؛ أو بسببِ تلكُّؤ المُشتركينَ عن دَفعِ الرسومِ المُتوجِّبةِ عليهم، الأمرُ الذي أدَّى إلى عَدمِ تَوفيرِ المالِ الكافي لتغطيةِ نَفقاتِ الطباعةِ والنَشرِ والتَوزيع.
ومثلما يُخبرنا نُعيمة في كتابهِ عن "جُبران"، فقد كانت "الفنون" إحدى ضَحايا الحَربِ العالميَّةِ الأولى. ورُغمَ غَيرَةِ عَريضة ونُعيمة وجُبران وحِرصِهم على مُحاولةِ إعادَتِها إلى الحياةِ وبَثِّ الرُّوحِ فيها، فـ "الفنونُ" غابَتْ إلى غَيرِ رَجعَة. يقول نُعيمة مُعلِّلاً ذلك: "إذْ وجدتُ أَنَّ الخُطَّةَ التي قد رسمَها جبران ونسيب [عريضة] كانت خُطَّةً يسهلُ تطبيقُها على الورَق ويكادُ يستحيلُ تحقيقُها بالعمل."[3] المُشكلةُ الأساسيَّةُ كانت— وبَقِيَت— إيجادَ المالِ الضروريِّ لإنعاشِ الجَريدة؛ وما مِن أحدٍ من الذينَ وَرَدتْ أسماؤهُم أعلاهُ كان يَملكُ النقودَ الكافيةَ لتَمويلِ الجَريدةِ الشهريَّةِ، التي كان نَسيب عَريضة رئيسًا لتحريرِها وراغب مِتراج مُديرًا لأعمالِها، وكانت قيمةُ الاشتراكِ السنويِّ بها خمسةَ ريالاتٍ، والدَّفعُ سَلَفًا.
والجديرُ بالذِكرِ هُنا، أنَّ تاريخَ الصِّحافةِ المهجريَّةِ في سنواتهِ الأُولى، أي بين العام 1862 وإطلالةِ نهايةِ القَرنِ العشرين، كان مَشوبًا بصراعاتٍ ونزاعاتٍ ومُهاتَراتٍ حَملَها اللبنانيُّون مَعهم من مُجتمعاتِهم الضَّـيِّقةِ في بلدِهم إلى أمريكا؛ فانعكَستْ هذه النِـزاعاتُ على صَفحاتِ جَرائدهِم، وعَبْرَ نَواديهِم وجَمعيَّاتِهم التي أسَّسوها في دُنيا الاغتِراب. ففي أمريكا، حيثُ للكلمةِ حُرمةٌ وحُرِّيـَّة، برزَتْ هذه الصِّراعاتُ واضحة، وتَركتْ بصَماتِها على "صفحاتٍ مشؤومةٍ في تاريخِ الصَّحافةِ المهجريَّة."[4]
صحيفةُ "الرسالة" وبداياتُها الصعبة
ونحنُ إنَّما نَذكرُ هذا كلَّهُ لنَلفِتَ الانتباهَ إلى أنَّ العوامِلَ المادِّيـَّةَ وكثرةَ الشائعاتِ والآراءِ والخلافاتِ الصَّحفيَّةِ بين أَبناءِ الجاليةِ التي تسبَّبتْ في احتجابِ بعضِ الصُحفِ المَرموقةِ، كـ "الفنونِ" مثلاً، كلُّها عَوارضُ أصابتْ مَسيرةَ الصِّحافةِ المهجريَّةِ بشكلٍ عامّ، ولم تَسلمْ منها كُبرَياتُ النَشَرات، بما في ذلك "الرسالة" التي نحنُ بصَددِ الكلام عليها. إلاَّ أنَّ "الرسالةَ"، بفضلِ جُهدِ صاحبِها ومؤسِّسِها الدَّؤوب، استمرَّت في الصُّدور، وهي كزميلاتِها، تُعاني "الفقرَ والقِلَّة" مع التلميحِ إلى التوقُّفِ عن النَشر، ولكن دونَ أن تَتوقَّف فِعلاً.
وصحيفةُ "الرسالةِ" بحدِّ ذاتها، لا تُعطينا فكرةً واضحةً عن مُؤَسِّسِها وناشِرها. مُعظمُ المعلوماتِ الواردةِ في هذه المَقالةِ عن صاحِبها، مُرشِد جرجس مَسعود، استَقيتُها من حَفيدِه، السيِّد ريك جورج، المُقيمِ حَاليًّا في مدينةِ سيراكيوز Syracuse، من أَعمالِ ولايةِ نيويورك، إمَّا خلالَ مُقابلاتٍ شخصيَّةٍ، أو عَبرَ البريدِ الإلكترونيِّ من رَسائلَ مُتبادَلةٍ بيننا. أمَّا المُجلَّداتُ الثلاثةُ المُشارُ إليها آنِفًا، فقد كانت مُخبَّأةً بصُندوقٍ في الطبقة السُّفلى من منـزلِ الحَفيدِ الذي، كالكثيرينَ من أبناءِ جيلِه، لا يَقرأُ ولا يَفهمُ اللُّغةَ العَربيَّةَ، لكنَّهُ، والفضلُ هنا لوالدِه، كان على عِلمٍ بوجُودِ هذهِ المَخطوطاتِ ومُدركًا لقيمَتِها الأدبيَّة.
وممَّا ذَكرهُ لي السيِّد ريك جورج أنَّ جدَّهُ مُرشِد مَسعود وُلِدَ في العاشِر من شهرِ تمُّوز (يوليو) عام 1895، في بلدةِ أرصون اللبنانيَّة، ثمَّ هاجرَ إلى أمريكا حَوالى العام 1910 وهو في الخامسةَ عَشرةَ من عُمره. عملَ مُرشد، أوَّلا،ً حائِكًا في مَعملٍ لحياكةِ الحَريرِ في مدينةِ دانبوري Danbury بولاية كَـنِّيتيكَتْConnecticut القريبةِ من نيويورك، حيثُ سكنَ مع شقيقِه شُكري مَسعود وأربعةِ شُبَّانٍ لبنانيِّين، بينهُم والدُ المرشَّحِ السَّابقِ لرئاسةِ الجمهوريَّةِ الأمريكيَّة، السيِّد رالف نادر Ralph Nader. هؤلاء الشبَّان الستَّة سَكنوا في بيتٍ واحدٍ، وعُرِفوا في مُحيطهم آنذاك بـ "الشَباب الستَّة الأرصونيِّـين" –نسبةً إلى مَسقطِ رأسِهم أرصون. وبعد فترةٍ انتقلَ نادر الأبُ إلى مدينةِ وِنستيد Winstead في كَـنِّيتيكَت أيضًا. وما لبثَ مُرشد مَسعود أن انتقلَ إلى مدينةٍ صغيرةٍ في ولايةِ نيويورك اسمُها هورنيل Hornell ، قُبيلَ العام 1914، ليعمَلَ في مَشغلٍ للحريرِ هناك. فمدينةُ هورنيل كانت آنذاك أكبرَ مَركزٍ لإنتاجِ الحَريرِ بعد باترسون Paterson في نيوجرسي New Jersey .
وحسبما يقولُ السيِّد ريك جورج، نقلاً عن والدهِ المُسِنّ، إنَّ جدَّهُ، مُرشد مَسعود، راحَ يُفكِّرُ بإنشاءِ الصَّحيفةِ في مدينةِ هورنيل خلالَ تلكَ الفترةِ نفسها. وبعد حوالى عقدَينِ من الزَمن، زارَ مُرشِد قريبًا له في مدينةِ سيراكيوز، فأعجَبتْهُ المدينة، وهي أكبرُ وأكثرُ تَقدُّمًا من هورنيل، فقرَّرَ الانتقالَ إليها مع عائلتِه بين العامَين 1934-1935، ووجدَ عملاً له هُناكَ في مَشغلٍ للحريرِ أيضًا.
والجديرُ بالذكرِ، هنا، أنَّ السيِّد مُرشد مسعود كانَ مُصِرًّا على تحسينِ نوعيَّةِ الطِباعةِ وإصدارِ أكبرِ عَددٍ ُممكنٍ من الصَّفحاتِ المكتوبةِ بخطِّ اليَد، الأمرُ الذي كان يتطلَّبُ الوقتَ الطويلَ والجُهدَ الجَهيد؛ فشرعَ يُفكِّرُ بطريقةٍ أكثر تِقنيَّةً لإصدارِ صحيفتهِ المطلوبة آنذاك، فابتَدعَ طريقةً أفضلَ لصناعةِ مَطبعةٍ يَدويَّةٍ مُستخدِمًا أُسطُوانتَين شَبيهتَين بالشَّوبك أو المِرقاق استلَّهُما من آلةٍ قديمةٍ لغَسلِ الثياب. وكانت هاتان الأُسطوانتان تُستعملان لعَصر الثيابِ المَغسولة. وبما أنَّ الصَّحيفةَ كانت أصلاً مخطوطةً على وَرقٍ خاصّ، فقد كان مُرشِد يُلصقُ النسخةَ المَخطوطةَ على هاتَين الأُسطوانتَين مُستعينًا بطبقةٍ من الجيلاتين الشفَّاف. وهكذا أصبحَ باستطاعتهِ أن يُمرِّرَ الشوبكَين على الأوراقِ البيضاء المُغمَّسةِ بالجيلاتين، فتُطبَعُ الحروفُ السَوداءُ عليها بدقَّةٍ وسُرعة. وبما أنَّ جورج، ابن مُرشد، كان فنَّانًا يَهوى الرَّسم، فقد كانت مَهمَّـتُه تَزيـينَ بعض صَفحاتِ الجريدةِ برسومٍ كاريكاتوريَّةٍ مُستوحاةٍ من إحدى المقالاتِ المُدرجَة، خاصَّةً المقال الافتتاحيّ.
ويُصرُّ السيِّد ريك جورج، نقلاً عن والدِه، على عَدمِ وُجودِ شُركاءَ لجدِّهِ أَسهموا مع مُرشد في إصدارِ الجريدة، مُؤَكِّدًا أنَّ "الرسالة" لم تُصبحْ في أيِّ وقتٍ من الأوقاتِ شركةً مُساهمة؛ وهذا نقيضُ ما نجدُه في العددِ رقم 22 الصادرِ في 5 تشرين الثاني 1932.
ويذهبُ السيِّد ريك جورج إلى القَولِ إنَّ جدَّه كان على اتِّصالٍ دائمٍ ووَثيقٍ بعديدٍ من رجالِ الدِّين البارزينَ في أمريكا الشماليَّة آنذاك، لِما كان لهؤلاءِ من حُضورٍ مُميَّزٍ وكلمةٍ مَسموعةٍ عند الجاليةِ اللبنانيَّة-السوريَّة. وكان هؤلاء الكهنةُ يُقيمونَ عند وُجهاءِ القُرى التي يَزورونَها. ويُضيفُ—نقلاً عن والدِه—أَنَّه كانت تُستأجرُ أحيانًا قاعةُ احتفالاتٍ كبيرة يجتمعُ فيها كثيرونَ من رجالِ الأدبِ والصِّحافةِ يأتونَ من مُختلفِ أنحاءِ الولاياتِ المُتَّحدةِ للاشتراكِ بمَهرجاناتٍ أو حُضور حَفلاتٍ أدبيَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ أو شِعريَّةٍ يُحييها شُعراءُ المُدُن والقُرى؛ وغالبًا ما تكونُ هذه اللقاءاتُ من نوعِ المُساجَلاتِ الزَّجليَّة، يَتبارَى فيها الزجَّالون بطريقةٍ تُذكِّرُنا بحفلاتِ الزَّجلِ الحَديثةِ التي كانت، وما تزالُ، شائعةً في لُبنان اليوم.[5] ويبدو أنَّ هذه المَهرجاناتِ كانت تَستلزمُ التحضيرَ الوافي، وتُعتبَرُ حَدثًا اجتماعيًّا مُهمًّا ينتظرُه الناسُ ويتوافدونَ إلى حُضورهِ بشكلٍ مُكثَّفٍ ومُستمرّ. ويؤكِّدُ السيِّد ريك، نقلاً عن والدِه، أنَّ جدَّهُ وشقيقَ جدِّه، شُكري، قد زَارا جُبران خليل جُبران أكثرَ من مرَّةٍ في بوسطن، قبل انتقالهما إلى سيراكيوز، وأنَّ جدَّه، صاحبَ "الرسالة"، وجُبران كانا قد تبادَلا الرسائل بالعَربيَّة؛ غيرَ أنَّه لم يُعثَر على أيٍّ من هذه الرسائل. لكنَّنا لا نستطيعُ الجزمَ بحدوث مِثلِ هذا التبادُل ما دُمنا لم نعثر على شيءٍ مادِّيّ يُثبِتُه. ويَذكرُ ريك أنَّ جدَّهُ قد تَرأّسَ وَفْد "الرسالة" مُنضمًّا إلى عدَّةِ صِحافييِّنَ ورؤساءِ تحريرِ جَرائدَ محلِّـيَّةٍ أُخرى إلى مأتمِ جُبران، وأنَّه كتَبَ وَصفًا وافيًا لمأتمِ "نابغة لبنان" طالما كان والدُه يُسهبُ في الحديثِ عنه. غير أنَّ العددَ الخاصَّ بتلك الحقبةِ، أي نيسان 1931، غيرُ موجود، ولا نعرفُ هل حُفِظَ وأين؟ وأخيرًا يَذكرُ السيِّد ريك جورج أنَّ جدَّهُ كان دَؤوبًا على العملِ والقِراءةِ والتَّفكير، وكان يَروي لهُ القِصصَ والحِكاياتِ عن قريتهِ مازجًا الجدَّ بالهَزلِ واللهجةَ اللبنانيَّة العامِّـيَّة بالإنكليزيَّة الشعبيَّة.
تاريخُ صَحيفةِ "الرسالة" وهُويَّـتُها
المجلَّداتُ الثلاثةُ التي بين يدَيَّ هي عبارةٌ عن صَفحاتٍ كبيرةِ الحجمِ مكتوبةٍ بخطِّ اليَد، غيرَ أنَّها في حالةٍ يصعُبُ معها استنساخُها أو تصويرُها، بل تصفُّحها أحيانًا، لأنَّها هشَّةٌ وسَريعةُ العَطَب. كما تَصعبُ قراءةُ بعض سطورِها في مواضِعَ عديدةٍ، لأنَّ حِبرَها قد جَفَّ تمامًا أو مُسِح، فاختفتْ عدَّةُ حروفٍ، وأحيانًا ضاعتْ سُطورٌ بأكملِها. هذا إضافةً إلى وجودِ عديدٍ من الأخطاءِ النحويَّة، لأنَّ لُغتَها العربيَّة هي مَزيجٌ من العامِّـيَّةِ والفُصحى، وفي مواقعَ كثيرةٍ أقربُ إلى المحكيَّةِ الدارجةِ منها إلى الفُصحى البَليغة. و"الرسالةُ"، على ما يبدو، كشقيقاتِها الصُّحف العربيَّة، آنذاك، لم تكنْ في بداياتِها تَصدرُ بشكلٍ مُنتظم، لأنَّ صاحبَها يقولُ إنَّها "تصدرُ في كلِّ فترة وتُرسَلُ لِمَنْ يُراسِلها". ويحملُ العددُ الأوَّلُ مِمَّا بين يَدَيَّ الرقمَ 14، للسنة السادسة، وهو مؤرَّخٌ في 14 أيَّار سنة 1932. وهذا يَعني أنَّ العددَ الأوَّلَ من "الرسالة" كان قد صدرَ في العام 1927، وإن نكنْ لا نَعرفُ اليوم والشهر. والعددُ الذي بين يَدَيَّ يحملُ اسمَ مؤسِّس "الرسالة" ومُحرِّرها، مُرشد جرجس مَسعود، باللُغتَين العربيَّةِ والإنكليزيَّة، كذلك مكانَ صدورِها وعنوانها في هورنيل، نيويورك، رقم 71، شارع ستايت. ومع أنَّ العددَ الأخيرَ من الأعدادِ التي بين يَدَيَّ يحملُ تاريخَ العامِ 1933، فـ"الرسالة" استمرَّ صُدورُها في سيراكيوز، نيويورك، بحُلَّةٍ جَديدةٍ وطباعةٍ أنيقة. يُستَدَلُّ على ذلك من كتابٍ بين يَدَيَّ بعنوان "الكنوز المخزونة" "لناظمهِ لُطف الله جرجورة مَسعد الأرصونيّ، نَزيل سَلما- نورث كارولينا"؛ وقد كُتِبَ على غلافهِ أنَّه "طُبعَ في مَطبعةِ مجلَّةِ الرسالة لصاحِبها ومُحرِّرها –مُرشد جرجس مَسعود." كما إنَّه مذكورٌ أيضًا عنوانُ "الرسالةِ" في سيراكيوز. وهذا الكتابُ عبارةٌ عن مجموعةِ قصائدَ باللُّغةِ العامِّـيَّة؛ وهو يضمُّ 105 صفحات، ولا ذِكرَ فيه لسَنةِ طباعَته، ولكنْ بداخلهِ قصيدة بعنوان "الطوفان" (صفحة 21)، مؤرَّخة في آذار، سنة 1936. فيُفهَم من ذلك أنَّ الكتابَ قد طُبعَ بعد هذا التاريخ. وفي إهداءِ الكتابِ يَقول المؤلِّف:
"أُقدِّمُ هذا الكتابَ إلى الصَّديقِ الصَّدوقِ وابنِ البلدةِ (أرصون) مُرشد جرجس مَسعود الغَيور، مَن اتَّخذَ على عاتِقهِ تنشيطَ الشِعر العامِّيِّ الوَطنيِّ في هذهِ البلاد، وحَرَّم على نفسِه لذَّةَ الراحةِ والنَومِ في سبيلِ تَعزيزهِ والنُهوضِ به إلى أَوْجِ التقدُّم والارتفاع، والذي مِن سَهرهِ وحُسنِ دربتِه أصبحَتْ "رسالتُه" أشهر من نارٍ على عَلَم..."
وقد عَثَرتُ على كتابٍ بعنوان "نفثاتُ مَصدور"، وهو الجزءُ الثاني من مجموعةِ قَصائدَ زجليَّةٍ مُتنوِّعة، بقلم سليم عَطايا صليبا، من الشُّوَير، لبنان. والكتابُ مَطبوعٌ سنة 1939 في مطبعةِ "العرائِس" في بكفيَّا، لبنان. ويذكرُ المؤلِّف على غِلافِ الكتابِ أنَّه "يُمكنُ طلبُ الكتاب من لبنان والمهجر، أمَّا في المَهجر، فيُطلَبُ من الأُستاذ مُرشد جرجس مَسعود، صاحبِ مجلَّةِ "الرسالة" في (سيراكيوز- نيويورك) 300 شارع هاثي [هافي]." فهل يُمكنُ اعتبارُ هذا دليلاً آخرَ على أنَّ مُرشد مسعود استمرَّ في إصدارِ "رسالتهِ" إلى أوائلِ الأربعينيَّاتِ من القَرنِ العشرين؟
يحتوي المُجلَّدُ الأوَّلُ على 15 عددًا من مجلَّةِ "الرسالةِ" مُوزَّعةً بين 14 أيَّار 1932 و17كانون الأوَّل 1932. ويتراوحُ عددُ صَفحاتِ الأعدادِ المذكورةِ بين 7 صفحات و4 صفحات للعددِ الواحد. ويتضمَّنُ كلُّ عددٍ مَجموعةً من الأبوابِ التي تَظهرُ بشكلٍ مُنتظمٍ ودَوريّ. فإضافةً إلى المقالِ الافتتاحيّ، نلحظُ مثلاً تكرارَ ظهورِ الأبوابِ التالية: شَذرات، رسالةُ اليوم، بابُ الشِعر (العامِّيِّ)، رسائلُ القُرَّاء، مَيدانُ الشُّعراء القَوَّالين، أخبارٌ مُتفرِّقة، بابُ العَتابا والميجَانا، نَقدات طائر، رسائل المُدُن، أخبارُ الجاليات، وِلادات ووفيات، إضافةً إلى تغطيةٍ شبْهِ كاملةٍ لحفلاتِ الجاليةِ اللبنانيَّةِ-السُّوريَّةِ ومهرجاناتهاِ في مُختلفِ المَناطق، خاصَّةً في ولايةِ نيويورك.
وكان للرسالةِ مُراسلونَ في عدَّةِ مُدُنٍ وقُرًى وولاياتٍ يمدُّونَها بأخبارِ المُجتمعِ العَربيِّ، وأحيانًا الأمريكيّ، حيثما وُجِدوا. ويُلاحَظُ أنَّ "الرسالةَ" كانت ابنةَ بيئَتِها من حيثُ عدَمِ انحِصارِها في تغطيةِ أخبارِ الجاليةِ العَربيَّةِ فقط؛ فكثيرًا ما نقرأُ أخبارَ المُجتمعِ الأمريكيِّ آنذاك، من حيثُ أحوالُهُ المادِّيـَّةُ والاقتصاديَّةُ والاجتماعيَّةُ والسياسيَّة، لأنَّ أبناءَ الجاليةِ كانوا يَعتبرونَ أنفسَهم أمريكيِّين أيضًا، ماداموا يَعيشونَ في المُجتمعِ الأمريكيِّ ويَتأثَّرونَ مُباشرةً بالسلبيَّاتِ والإيجابيَّاتِ في أوضَاعِه الاقتصاديَّةِ والسياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ وانعكاساتِها على أحوالِهم المَعيشيَّة. فبالرُغمِ من أنَّهم حَاولوا الإبقاءَ على عاداتِهم وتقاليدِهم ونَزعاتِهم الوطنيَّةِ التي حَملوها من بَلدِهم ألأُمّ، فإنَّهم، في أحيانٍ كثيرةٍ، حاوَلوا التوفيقَ بينها وبين تلكَ التي وَجدوها في بيئاتهِم الجديدةِ ووطنِهم الذي تبنَّوهُ عن قَناعةٍ ويَقين.
كما إنَّ مُحرِّر "الرسالة" كثيرًا ما كان يُثيرُ مَوضوعاتٍ جَديدةً ويَطرحُ أفكارًا تَسترعي انتباهَ القُرَّاءِ واهتمامَهم. ففي أواخِر المُجلَّدِ الأوَّل، وعلى مَدى صَفحاتِ المُجلَّدين الثاني والثالث، نَلحظُ رُدودًا كثيرةً لموضوعاتٍ مَطروحة، يَبدو أنَّها كانت مَثَارَ جِدالٍ دائمٍ بين أَفرادِ الجاليةِ مِثل: "أيُّهمَا أفضلُ لنا في مَهجرِنا، المَدارسُ أمْ الكَنائس؟" أو "الجرائدُ أم الجمعيَّات؟"؛ فـ "الرسالةُ"، من هذهِ الناحية، هي تأريخٌ لتلكَ الحقبةِ في حَياةِ الجاليةِ اللبنانيَّةِ-السُّوريَّةِ في أمريكا الشماليَّة.
ويُعتَـبَرُ العددُ رقم 22، الصادرُ في 5 تشرين الثاني 1932، نُقطةَ تحوُّلٍ في مَسيرةِ "الرسالة"؛ ففيه إظهارٌ للضائقة المادِّيـَّة التي تمرُّ فيها الصحيفة. وكثيرًا ما لمَّحَ مُرشد إليها، حاثًّا المُشتركينَ على دَفعِ بَدلِ اشتراكِهم تحتَ طائلةِ المسؤوليَّةِ الشخصيَّة وتمنُّع إرسال الأعدادِ الجديدةِ للمُتأخِّرين بالدَفع؛ أو أَنذرَ باحتجابِ "الرسالةِ" عن الصدورِ وإقفالِ مكاتِبها نهائيًّا. ومن الجدير بالذكر أنَّ البلادَ بكامِلها (مثلما نَقرأُ في "سبعون" نُعيمة، ص 574)، كانت آنذاك تَمرُّ في ضَائقةٍ ماليَّةٍ واقتصاديَّةٍ حَرِجة، والبطالة مُتفشِّيةٌ بين أبناءِ الجالية. فبدلاً من وَقفِ إصدار "الرسالة"، وإن يكُنْ إلى حين، مثلمَا فَعلَتْ كُبَرياتُ الصُّحفِ العَربيَّةِ في ذلك الوقت، كـ "السائحِ" مثلاً، إذْ طلبَ عبد المسيح من نُعيمة أن يكونَ شريكًا مَعه ("سبعون" ص 493)، حوَّلَها مُرشِد إلى شركةٍ مُساهمةٍ مؤلَّفةٍ "...من رجالِ حَزمٍ ووطنيَّةٍ وإخلاص...وقد رَأتِ الشَّركةُ أن تُصدرَ "الرسالةَ" مرَّةً في الأسبوعِ بأربعِ صفحاتٍ فقط، (بدلاً من مرَّةٍ في كلِّ فترةٍ وإنْ بعددٍ أكبرٍ من الصَّفحات) نَظرًا للظروفِ الحاضِرة، إلى أن تَنفرجَ الأزمةُ الخانقةُ وتعودَ الحالةُ الاقتصاديَّةُ إلى الانتظام." وبَدءًا من ذلك التاريخ، أُضيفَ اسمُ وديع رزق الله مديرًا مسؤولاً، وبقيَ اسمُ مُرشِد مَسعود تحتَ لقبِ "مُنشئها ومُحرِّرها". وبقيَ الاشتراكُ السنويُّ ريالَين ونصفَ ريالٍ في جميعِ الجهَات، وعنوانُ "الرسالةِ" بَقيَ كذلك مِثلمَا كان. ومنَ اللافتِ للنظر، أنَّ المقالَ الافتِتاحيَّ المَحصورَ بهذا الخَبر "تأسيسُ الشَّركةِ المُساهِمة" قد كتبَهُ هذه المرَّة، الأُولى والأخيرة، مُديرُ "الرسالةِ" المسؤولُ الموقِّعُ عن الشَّركةِ المُساهمة، السيِّد وديع رزق الله، وفيهِ أصَرَّ على أن تكونَ جميعُ المُراسلاتِ والمَقالاتِ والأخبارِ المُرسَلةِ إلى مكتبِ الصَّحيفةِ، من ذلك الحين وصاعدًا، مُوقَّعةً بإمضاءِ أصحابِها، وعلى أنَّ "كلَّ كِتابةٍ تُرسَلُ للنشرِ وتكونُ غُفْلاً من التوقيعِ يُرفَضُ نَشرُها." وهذا إشارةٌ إلى مَنشوراتٍ سابقةٍ غيرِ مُذيَّلةٍ بتوقيعِ أصحابِها، كانت قد أثارتْ تأويلاتٍ وحَسَّاسيَّاتٍ في السابق، نَرَاها في أعدادٍ كثيرةٍ من الرسالة. وتجدرُ الإشارةُ هنا إلى الكلمةِ المُختصَرةِ التي ذيَّلَ بها مُرشِد الصَّفحةَ الأولى من العَددِ المُشارِ إليه، قائلاً: "خبِّروهم أنَّ "الرسالةَ" شركةٌ لا طائفيَّة ولا مَذهبيَّة، وأنَّ مُديرَها المَسؤول مارونيٌّ، ومُحرِّرها أُرثوذكسيٌّ، غيرَ أنَّ مَذهَبَ الرسالةِ وشعارَها هو النَزاهةُ والإخلاصُ وخِدمةُ الطوائفِ على السَّواء، فلا يجرِّبوا أن يَلعبوا بالنَّار."
عرضٌ سريعٌ لمحتَوياتِ الأعدادِ لعامَيْ 1932 و1933
فيما يلي عرضٌ مُلخَّصٌ لأهمِّ مُحتوياتِ المُجلَّداتِ الثلاثةِ التي بين يَدَيَّ:
نُذكِّرُ أنَّ ما أسميناهُ "المُجلَّد الأوَّل" هو في الحقيقةِ حَلقةٌ في سلسلةِ مُجلًَّداتِ "الرسالةِ" التي كانت، حينَ صُدورهِ في 14 أيَّار سنة 1932، في سنتِها السَّادِسة. وفي المقالِ الافتتاحيّ يَبدو مُرشد مُتأفِّفًا تَعِبًا، يَشتَكي من الضائقةِ الماليَّةِ التي تُعاني منها الصَّحيفةُ في عامِها السادس، ويَصفُها بكلامٍ يُذكِّرُنا بقولِ نُعيمة عن "السائح" عام 1919 ("سبعون"، ص 418). ففي سنواتها الخمس الأُولى، يقولُ المُحرِّر، كانت هذه الصَّحيفةُ "عَرجاءَ تتوكَّأُ على عُكَّازِ صاحبِها الرَكيكة... فكانت كالمَشلولِ أو كمَنْ هو في طَورِ النِزاع، تَصدُرُ مَرَّةً في كلِّ فترةٍ بكلماتٍ مُتقطِّعةٍ كَمَن يَهذي، وبأحرفٍ مَمحيَّةٍ كصحيفةٍ أكلَ الدهرُ عليها وشَرِب." ويُسرعُ إلى تأكيدِ أنَّ الذنبَ في ذلكَ ليسَ تقصيرًا منه، بل لأنَّ الصَّحيفةَ "خُلِقَتْ فقيرةً وحَقيرةً حتَّى في عينِ صاحِبها." لكنَّه ثابَر وكافحَ واستمرَّ في إصدارِها، لأنَّه صَحفيٌّ عِصاميٌّ مُلتزمٌ أصالةَ الكلمة، مَدفوعٌ وراءَ "اللذَّةِ في الكتابةِ وتصفُّحِ الأوراقِ ومَحبَّةِ الأدبِ والأُدباءِ والرَّغبةِ في المَبادئِ التي أنشَأنا "الرسالةَ" لأَجلِها." ولولا ذلك، "لكُنَّا ضَربْنا بها عُرضَ الحائط، وتَخلَّصنا من الأتعابِ والخسائرِ والمَرارةِ والآلامِ التي نَلقَاها في سبيلِ إصدارِها." ويُخبرُنا مُرشِد بأنَّه راحَ يُغالبُ الزمانَ ويَجهدُ في تحسينِ صَحيفتِه وتَرقيتِها "ولو بدون فائدة،" حتَّى إنَّه تمكَّن، بعد عَناءٍ طَويلٍ، "من اختراعِ مطبعةٍ يَدويَّةٍ نقدرُ بواسطتِها على إصدارِ أُلوفٍ من الأعدادِ والنُّسَخ بخطٍّ أوضح، ولكنْ بخسارةٍ أكثر وتكاليف أوفر." وهنا، يُسرعُ إلى تحيَّةِ المُناصرينَ والأصدقاءِ والقُرَّاء، آمِلاً أن يكونَ التَّحسينُ الذي طَرأَ على نوعيَّةِ الطِّباعةِ اليدويَّةِ عندَ حُسْنِ ظَنِّهم، طالبًا إليهم استمرارَ الدَّعمِ والغَيرَة، لأنَّ "الرسالة"، وإن تكنْ في عامِها السَادس، "لا تزالُ في مَدرسةِ الأدبِ طِفلة، وفي الصُّدورِ مَرَّةً في كلِّ فَترة." ويؤكِّدُ أنَّ مَهمَّة "الرسالة" هي أن تكونَ "صِلةَ وَصْلٍ" بين أبناءِ الجاليةِ اللبنانيَّةِ-السُّوريَّةِ، وأن تُغطِّيَ أخبارَهم، خاصَّةً، وأخبارَ المُجتمعِ الأمريكيِّ عامَّةً، في نواحيهِ الاجتماعيَّةِ والسياسيَّةِ والاقتصاديَّة.
ومعظمُ مُحتوياتِ المُجلَّدِ الأوَّلِ تندرجُ تحتَ المَوضوعاتِ التالية:
أخبارُ المُجتمع، الاتَّحادُ الوطنيّ، بَدل الاشتراكِ بالصَّحيفة، انتقادُ أزياءِ بعضِ الأُدباءِ المُتنوِّرين، أخبارٌ مُتفرِّقة، بابُ الشِّعر، أخبارٌ عن جَرائدَ مُعاصِرة "للرسالة"، فيلسوف الفرَيكة.
وإنْ كنتُ فصَّلتُ الكلامَ على بعضِ هذه العَناوين، فحِفظًا للأمانةِ العِلميَّة، ولترجيحي عَدمَ وجُود المجلَّة في أيِّ مكانٍ آخَر، لأنَّ المَخطوطةَ التي تهيَّأتْ لي عَادتِ الآن إلى بيتِ أصحابِها وهي، مثلما تسلَّمتُها وأعدتُها، في حالةٍ هشَّةٍ وهزيلة.
"الرسالةُ" وموضوع الوطنيَّة
تَبقَى الوطنيَّةُ مَادَّةً دَسِمة. فإنَّنا نجدُ في كلِّ عددٍ من أعدادِ "الرسالةِ" تعليقًا على الوضعِ السياسيِّ والاقتصاديِّ في البَلدِ الأُمّ. ويعتبرُ مُرشد أنَّ مُشكلتَـنا في لبنان و"بليَّتَـنا" هي "زعامتُـنا". ويحملُ على زُعماءِ الأُمَّةِ الذين وَضعوا المَصالـحَ الفَرديَّةَ فوقَ مَسؤوليَّةِ الوطن في وَصْفٍ يُذكِّرُنا بكتاباتِ جُبران. ويختَتمُ مَقالةً له بقوله: "فيا وَيلَ أُمَّةٍ تَتقاتلُ فيها الزَّعامةُ وتَقتَتِل. ويا ويلَ قومٍ لا تتَّحدُ مَبادئهُم ولا يَعرفونَ للإخلاصِ والإخاءِ مَعنًى، ويا ذُلَّ شَعبٍ يَنفخُ زعماؤه ببوقِ الخلافِ والانقسام، فيا عصرَ الجهالةِ سلامٌ عليكَ وسلامٌ على العصورِ المُظلمة."
وفي مقالٍ آخر بعنوان"الاتِّحادُ الوطنيُّ"، يُعالجُ الكاتبُ "وديع" مَوضوعَ الوحدةِ والاتِّحاد، ويَنعى "تجريدَ أبناءِ الوطنِ من التَربيةِ الوطنيَّةِ الصَحيحة،" ويعزو ذلك إلى "الغاياتِ والمآربِ الشَّخصيَّةِ ومحبَّةِ الذَّات"، ويُعطي بُرهانًا من تاريخِ لبنان في عهد المَعنيِّ الكبير، "أمير لبنان"، حين كان الشعبُ اللبنانيُّ كُتلةً واحدةً يَسيرُ تحتَ قيادَتهِ "مُتَّحدًا بطوائِفهِ وزعامَاتِه،" ثمَّ كيفَ تَدخَّلت "اليَدُ الأجنبيَّةُ" وأثارتِ الفِتَن، خاصَّةً "ثورةَ الستِّين المشؤومة." ويُلاحظُ الكاتبُ أَنَّ الشعبَـين اللبنانيَّ والسوريَّ قد عانَيا من تلك الفِتَن، فيقول: "والشعبُ السوريُّ لم يكُن أَفضلَ من الشعبِ اللبنانيِّ لَمَّا التوَت غاياتُه وفسدَت أَحكامُه وامتدَّت أَيدي التخريب إلى صفوفِه الوطنيَّة."
وفي مَقالٍ آخر، يُذكِّرُ الكاتبُ بأيَّام "السُّخرة" في لبنان وسوريا، يومَ كانت البلادُ تَرزحُ تحتَ نيْرِ الحُكم التركيِّ وتُسخِّرُ (المكاريَّة) "بحَمْلِ حوائج الدولةِ من بيروت إلى الشام."
ويروحُ كاتبٌ آخَرُ ينتقدُ موقفَ "السوريِّـين" (أي السوريِّـين واللبنانيِّـين) غيرَ المُوحَّد، لأَنَّ الوطنيَّةَ عندهم "اسمٌ لغيرِ مُسمًّى، والنعرات والاختلافات عندهم واضحة، خاصَّةً في "انتخاب رئيس لبنان." فالمُرَشَّحون من "[حبيب باشا] السَّعد إلى [بشاره] الخوري، إلى [إميل] إدّه"، جميعُهم موارنة، "وكلٌّ منهم خصمٌ للآخَر. ويتمنَّى أن يكونَ المُنتخَبُ مُسلِمًا أَو أرثوذكسيًّا، ولا يكون مُزاحمه المارونيّ." ويتأَسَّفُ الكاتبُ لحالة البلاد التعيسة، بعد أَن يُعطيَنا أمثلةً عديدةً عن الوحدةِ الوطنيَّةِ من التاريخِ المُعاصر لليابانِ والصِّين "حيثُ استماتَ المُواطنونَ، رجالاً ونساءً بالدِّفاعِ عن وطنهم."
ويحملُ كاتبٌ آخَرُ على انعدام الوحدة في بلدِنا، لأنَّ الشرقيِّـين لا يعرفون من الوحدة إلاَّ اسمَها فقط، ويُؤكِّدُ أنَّ "الاتِّحادَ بعيدٌ عنَّا كبُعدِنا عن السماء،" وأنَّه صدَقَ مَن قال: "اتّفَقنا على أَن لا نتَّفق... لأَنَّنا شعبٌ حَسود، وقلوبنا مُخدَّرة بأَفيون الحسَد."
ويُعلِّلُ كاتبٌ آخَر غيابَ الرُّوحِ الوطنيَّةِ بانعدامِ التربيةِ الوطنيَّةِ الصَحيحَة التي من أركانِها "أوَّلاً، محبَّةُ الوطن؛ وثانيًا، حُرِّيـَّةُ الأديان؛ وثالثًا، حُرِّيـَّةُ القَول؛ ورابعًا، المُساواةُ؛ وخامسًا، الاتِّحاد." وهذه مبادئُ تبَلوَرتْ، ولا شكَّ، عند المُهاجرين بعد أن تنسَّموا مَناخَ الحُرِّيـَّةِ في أمريكا، فراحوا يُقارنونَ ويتحسَّرونَ على حالةِ بَلدِهم الأُمّ.
ويؤكِّدُ الكاتبُ سمعان يوسف سمعان أنَّ "المُهاجرين، الآن، أقربُ إلى التفاهُمِ والاتِّحادِ من الماضي، لأنَّ التعصُّباتِ الطائفيَّةِ التي كانت قبلاً من أشدِّ الأدواءِ فتْكًا بمَشاريعِهم العموميَّةِ قد خفَّتْ بالمئةِ خمسةً وسبعين، ولم تَعُدْ مَوجودةً إلاَّ في الأفرادِ الذين يتَّخذونَها، بعض الأحيان، سلاحًا لنَيْلِ غاياتِهم الشَّخصيَّة."
وفي خبرٍ آخَر من "الوطن القديم... لبنان" تُثني "الرسالة" على أَمر المسيو بونسو، المندوب السامي الفرنسيّ، بحَلِّ مجلس النوَّاب اللبنانيّ عام 1932، لأنَّ النوَّاب "كثيرين [كثيرو] الكلام، قليلي [قليلو] الأفعال لمصلحة وطنِهم." وتُعلِّقُ بالقول: "فشكرًا له" لأنَّ الحُكَّامَ "غافلون عن الشعب تمامًا." وفي خبرٍ آخَرَ من لبنان أَنَّ أُستاذًا عُيِّنَ في إحدى المدارس الحكوميَّة وهو لا يُحسِنُ توقيعَ اسمِه. فتُعلِّقُ الصحيفة بكلمة "فتأَمَّلوا".
ويؤكِّدُ كاتبٌ آخَر أنَّ أبناءَ الجاليةِ اللبنانيَّة-السوريَّة هم في أمريكا "قومٌ واحدٌ تحتَ عَلَمِ الخطوطِ والنجوم"، ولكنَّهُ يتساءلُ في آنٍ معًا: "لماذا احتقارُ أنفُسنا؟" ويَعيبُ على أبناءِ الجاليةِ في حَفلة "نياغارا فولْز" رَفْعَ العلَم الأمريكيِّ بدون العَلَمينِ السُّوريِّ واللبنانيّ.
وفي عدد 12 تشرين الثاني 1932، يورِدُ مُرشد مسعود عددًا كبيرًا من الحِكَم البَليغة المُستوحاة من أَقوال جبران، في موضوعِ الدِّين والأخلاق. وفيه مقال آخر عن تَغييرِ أبناءِ الجاليةِ السوريَّة اللبنانيَّة المُتعمَّدِ لأسمائِهم في أميركا "ليتأَمرَكوا". يختمُ الكاتبُ مقالَه بقوله: "مَن سمَّى ابنَه أو بنتَه اسم [اسمًا] أجنبيّ [أَجنبيًّا]، تبرَّأ من عُروبَته."
وفي عدد 4/2/1933 رسالة من بوسطن يحتجُّ فيها صاحبُها على إهمال اسم لبنان من التغطية الإخباريَّة لمهرجانٍ أُقيمَ في أُوليان- نيويورك، وذلك لأنَّ المُراسِل شملَ اللبنانيِّـين، رغمَ استقلالهم، باسم السوريِّـين.
وفي عدد 28 أيلول 1932، وتحتَ عنوان "أشواك وأزهار"، كلمةٌ عن "الأديب الكبير أمين الرِّيحانيّ" جاء فيها: "أمين الريِّحاني، فيلسوفُ الفريكة، كاتبٌ لا أحد يجهلُ مَقدرتَهُ الكتابيَّة، وخصوصًا دِفاعهُ عن العربِ وحقوقهم، وقد حبَّر عِدَّةَ مقالاتٍ سياسيَّةٍ صوَّر فيها العَربَ شعبَ حضارةٍ وأدبٍ جمّ، وفضَّلَ العربَ الرُحَّل على بَني وطنِه الأصليّ لبنان..."
وباختصار، فإنَّ ما نُشرَ في صَحيفةِ "الرسالة"، يُعطينا فكرةً واضحةً عن مَوقفِ أبناءِ الجاليةِ اللبنانيَّة، آنذاك، من المواقف السياسيَّةِ السائدة ومُؤتمرِ باريس المُتعلِّق بشؤون لبنان خاصَّةً والوطن العربيِّ عامَّةً، واطِّلاعِهم على الأمورِ السياسيَّةِ الجاريةِ في أمريكا وأوروبَّا والشرق الأوسط، ويُظهر اهتمامَ أبناءِ الجاليةِ عامَّةً بوحدةِ لبنان واستقلالِه، مع الحفاظِ على حُسنِ الجوارِ بينهُ وبينَ إخوانهِ العَرَب. وخلافًا لِما وردَ عن موقف الريحانيّ، مثلاً، نقرأُ أَخبارًا أُخرى تُطري موقفَ جبران "اللبنانيّ الصميم" و"نابغة لبنان".
وفي عدد 4 شباط 1933، ورَدَ مقالٌ عن زيارةِ صاحبِ جَريدةِ "الهُدى" الأستاذ سلُّوم مُكَرْزل إلى بَفَلوBuffalo بولاية نيويورك، لحضورِ حَفلةٍ عَامِرةٍ أقامتْها جمعيَّةُ فُرسان لُبنان. ويصفُ المقالُ اللقاءَ الحافِل الذي أُقيم لمكَرْزل ودامَ إلى ساعةٍ مُتأخِّرةٍ من الليل. ويَشعرُ القارئُ بمكانةِ مكرزل وما كان له من قِيمةٍ واعتبارٍ لدَى أبناءِ الجاليةِ اللبنانيّةِ-السُّوريَّةِ آنذاك. وكثيرًا ما أشارَ الكاتبُ إلى سلُّوم بنعتِهِ بـ"النمر اللبنانيّ"، و"صاحبِ الموقفِ الأصيل" و"الخطيب المُفوَّه"...والذي "ما إنْ ذُكرَ اسمهُ حتَّى دوَّت القاعةُ بتصفيقِ الإعجابِ والاستحسان..."
ويتكلَّم مُحاضرٌ آخر يُدعىأنطوان كمَيد، فيُذكِّرُ بالراحلِ الكبير نعُّوم مكرْزل "وأفضالِه"، ويَلفتُ نظرَ الحاضرينَ إلى حَديثٍ كانَ قد جَرى في وقتٍ سابقٍ بحضورِ صاحبِ "الهُدى"، الذي يَبدو أنَّه كانَ وثيقَ الصِّلةِ بالجالياتِ اللبنانيَّة المُنتشرةِ في مُختلفِ أنحاءِ الولاياتِ المُتَّحدة. وفَحوى هذا الحديثِ الكلامُ على تأسيسِ "جمعيَّةِ الاتِّحاد"، إذْ يُشكَّلُ لها مجلسٌ يضمُّ ممثِّلينَ عن مُختلفِ الجالياتِ اللبنانيَّةِ في أمريكا الشماليَّةِ لتعزيزِ المَوقفِ اللبنانيِّ في المَهجر. وممَّا يسترعي النظرَ أنَّ المُحاضِرَ والحاضرين أصرُّوا على أن يكونَ صاحبُ "الهدى" مُهتمًّا بهذا الأمر اهتمامًا شخصيًّا. ويؤكِّدُ المُحاضُر قائلاً: "لتنفيذِ هكذا فكرةٍ يجبُ أن يَشرعَ بها رجلٌ كصاحبِ الهُدى، فهو وحدَه بقوَّةِ هُداهُ يَقدرُ أن يُحقِّقها... [لأنَّ] الهُدى جريدةُ المَهجرِ الوحيدةِ التي تَربطُ شتاتَ شملنا الاجتماعيّ. وبوُجودِ أستاذنا وعزيزنا سلُّوم وبجهودِ مُحبيِّه وغَيرةِ مُناصريه، فالهُدى حيَّةٌ ما دامَ سلُّومها."
الشعرُ والشعراء
إنَّ بابَ الشِّعرِ معظمُه بالعامِّـيَّة. وهو يشتملُ على الزَّجل، والمُساجلاتِ الشعريَّة بين شُعراءَ مُتعدِّدين من مُختلفِ المناطقِ الأمريكيَّة، ويُعَدُّ من أَبرزِ الأبوابِ التي فَتحت "الرسالة" صَدرَها لها. وقد شجَّعت "الرسالةُ" الشُّعراءَ بنَشرِ أشعارِهم وأزجالِهم على صفحاتِها. وكان بين هؤلاءِ الشُّعراء والقوَّالين مَن أصبحَ فعلاً من شُعراءِ الجريدةِ الدَّائمينَ الذين ظهرتْ قصائدُهم في أعدادٍ مُتلاحقةٍ منها. وتجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ القليلَ من هذه القصائدِ كان بالفُصحى، لكنَّه لم يَخلُ من الأخطاءِ اللُّغويَّة. وتَتنوَّعُ المَوضوعاتُ التي تَناوَلها الشُعراءُ، وتَتوزَّعُ بين مُساجلاتٍ ورُدودٍ خاصَّة. وهي تَتناولُ النواحيَ الاجتماعيَّة، والسياسيَّة، والاقتصاديَّة ونشاطاتِ الجالية، وحَنينَ المُهاجر، والوطنَ الأُمّ لبنان، والدِّينَ والكنيسة، وما شَابَه ذلك، إضافةً إلى الحكمةِ والرثاء والنَّدب.
وفي عدد كانون الثاني 1933 نصٌّ لخطابٍ ألقاهُ شَقيقُ صاحبِ جريدة "الرسالة" في حفلةِ تكريميَّة أقامَتها الجاليةُ السُّوريَّة-اللبنانيَّة في دنبري، كنَّيتِكَت، في الثاني والعشرين من الشهرِ المذكور، وذلك للترحيبِ بالشاعر إيليَّا أبي ماضي. ويتطرَّقُ صاحبُ الخطاب في كلمته إلى تعريف "الشاعر" عامَّةً مُستوحيًا بعضَ ما قاله جبران.
"الرسالة" وموضوع رجال الدِّين
وبما أنَّ رجالَ الدِّين أَدَّوا دَورًا مُهمًّا في إدارةِ شؤونِ الجاليةِ في شماليِّ أمريكا، فلا تَخلو صفحاتُ "الرسالةِ" من تَغطيةِ بعضِ أخبارهِم وتنقُّلاتِهم، تارةً بالمَديح، وطورًا بالذمّ. ففي عدد آب 1932، مثلاً، نقرأ مَقالاً بعنوان "إله الخير وإله الشرّ"، فيه يُقارنُ الكاتبُ بين جماعةِ الخيرِ وأهلِ الشرِّ مُشبِّهًا الأخيرَين بإلهٍ رعديدٍ أفاقَ يَومًا وتَعمَّدَ زرْعَ الحَسدِ والحِقد والغيرةِ والطمعِ في قلوبِ النَّاس، والكهنة من بينهم. وفي المقال تَرِدُ تشبيهاتٌ كثيرة تُذكِّرُنا بلُغة جبران وأُسلوبِه وتأثيره في الكُتَّاب.
وفي عدد 20 تشرين الأوَّل 1932، نشَرت "الرسالة" مُذكِّرات مُواطنٍ لبنانيٍّ ملأى بالنَّقدِ لرجالِ الدِّين الذين أساؤوا استعمالَ الرسالةِ الكهنوتيَّة. وتطرَّق الكاتبُ إلى ديونِ الكنائسِ المُتراكمةِ في جالياتٍ مُتعدِّدة، وأكَّدَ أنَّ المُسبِّب الأوَّل "لهذه الديون هو الكاهن". هذا إضافةً إلى عدَّةِ مقالاتٍ تُفصحُ عن ردَّةِ فِعْل القُرَّاء على هذا الشأن. وفي عدد 26 تشرين الثاني من العامِ نفسه، يَظهرُ مَقالٌ آخَرُ فيه انتقادٌ لاذعٌ لبعضِ الكَهنةِ وسلوكِهم على المَذبحِ ودَاخلَ الكنيسة. كما يَكتبُ أحدُ النقَّادِ مُنتقدًا طولَ القدَّاس، ومَللَ الرعيَّة بأثنائه. وينتقدُ الكاتبُ الكهنةَ الذينَ يمتهنونَ لعبَ الوَرقِ واختلاسَ أموالِ الكَنيسة.
ومن الأخبارِ التي وردَت في هذا المجال واستحوذَتْ على قِسطٍ وافرٍ من صَفحاتِ الأعدادِ الأخيرةِ المتوافرةِ لدَينا، خبرُ زواج أَحدِ الأساقفة الأُرثوذكسيِّـين بفتاةٍ عمرُها 22 سنة، بينما هو في سنِّ الخامسةِ والخمسين. وهذه الحادثة أثارتْ نقمةً عارمةً ظهرَت انعكاساتُها على صفحاتِ "الرسالة" عبرَ أعدادٍ مُتلاحقة. وواضحٌ أنَّ "الرسالة" وقرَّاءَها اعتبروا هذا العَملَ خَرقًا للشرائعِ وانتهاكًا لمؤسَّسةِ الزواجِ والقوانينِ الكنَسيَّة. أمَّا جريدة "النيازك" الصادرة في نياغارا فولز بولاية نيويورك، فقد تبنَّتْ وُجهة نظر المُطران المذكور، ونَشَرتْ دفاعَهُ عن نفسهِ ودفاعَ أصحابه عنه. ودارتْ بين الجريدتين حِواراتٌ ومُناقشاتٌ مُثيرة لا تخلو من الإهانات. وفتحتِ "الرسالةُ" بابًا جديدًا للقرَّاء والنقَّادِ حول تحليلٍ لموضوع "الطلاق الكنَسيِّ أسوةً بالطلاقِ المَدنيّ." وفي عدد رقم 61 الصَّادر في 26 آب 1933، نقرأُ رسالةً جوابيَّةً مُطوَّلةً من الأرشمندريت أنطونيوس بشير إلى مُرشِد مسعود، صاحب "الرسالة"، الذي كان، على ما يَبدو، قد بعثَ بأكثر من رسالةٍ وسؤالٍ إلى أنطونيوس بشير لما كانت له من مكانةٍ مَرموقةٍ وساميةٍ عند أبناءِ الجالية، يَسألهُ رأيًا وفَتوى في حادثةِ زواجِ المطران. وتجدرُ الإشارةُ هنا إلى رسالةٍ سابقةٍ من أنطونيوس بشير نُشِرتْ في عدد 24 كانون الأوَّل 1932، وفيها يَعِدُ "الرسالة" بأنَّه سيُرسلُ إليها لاحقًا ترجمةً عن الفرنسيَّة لقِصَّةٍ بعنوان "الواجب" للكاتبِ الفَرنسيِّ الشهير هنري بردو. وكانت "الرسالةُ" تُشجِّع نَشرَ القِصص الأجنبيَّة المُترجمة، وإن هي لم تُدرِج بابًا خاصًّا بها. ففي أكثر من عددٍ نقرأُ ترجماتٍ لكُتَّابٍ أجانب. وآخر ما وَرد كان ترجمةً لقصَّةٍ بعنوان "غرور الوهم" للكاتبِ الفرنسيّ فولتير.
وإليك صورة عن رسالة الأرشمندريت بشير:
يوضع هنا نصّ الرسالة المخطوط،
تُصَوَّر الرسالة تصويرًا
"الرسالة" وموضوع المرأة
لم تُهْمِل "الرسالةُ" ذِكرَ المرأةِ (الأُمِّ والزَّوجةِ والابنة)، ونَشرِ المقالاتِ في الدِّفاعِ عنها وضرورةِ تعليمها وإعطائها حقوقَها كامِلة. غيرَ أنَّ مَقالةً وَحيدةً نُشِرَتْ في عددِ أيَّار 1932، بعنوان "أعدى أعداءِ المرأة"، وتضمَّنت تَرجمةَ أقوالٍ للفيلسوفِ الألمانيِّ شوبِنهَوَر في المرأة— وهي بالطبع ليستْ أقوالاً إيجابيَّة— أثارتْ غضبَ القُرَّاء؛ فانهالَتِ الرُّدودُ والرسائلُ على مكتبِ "الرسالة" تُهدِّدُ وتتوعَّد، الأمرُ الذي حَدا بمُرشد، رئيس التحرير، إلى كتابةِ رَدٍّ تحتَ عنوان "الخطيئة المُميتة"، وذلك في عدد رقم 15 الصَّادر في حزيران 1932، وفيه إيضاحٌ واعتذارٌ شديدٌ عمَّا وردَ في مقالةِ العددِ السابق، وتنصُّلٌ من التهمة المُوجَّهة إليه. وعلى امتدادِ صفحاتِ الأعدادِ اللاحقة تتوالى مقالاتٌ في الدِّفاعِ عن المرأةِ وحقوقِها كتبَها مُرشِد وغيرُه من الكتَّاب، تحتَ عنوان "الجنس النَّاعم". وتتوالى اعتذاراتُ مُرشِد إلى أن يَقول في أحدِ الرُّدودِ إنَّه: "رُبَّما يتوجَّبُ حَرقَ ذلك العَددِ المَشؤومِ لما فيه من ذمٍّ بالمرأة." وأدرجتِ "الرسالةُ" في عددِها الصَّادرِ في 7 /1/ 1933 مَقالاً افتتاحيًّا في الدِّفاعِ عن المَرأةِ بعُنوان "هي"، كَتبهُ الكاهنُ نقولا النحَّاس، وكذلك مَقالاً افتتاحيًّا آخَر بعنوان "فلْنفتَكرْ قليلاً"، في عددِ 4/2/1933، وهو أوَّلُ مَقالٍ افتتاحيٍّ "للكاتبةِ الأديبةِ صاحبةِ الإمضاء، والتوقيعِ باسم –مُتأمِّلة". وهو عبارةٌ عن رسالةٍ مَفتوحةٍ إلى السيِّدات، رحَّبتِ الصحيفةُ بها تَرحيبًا حارًّا. والرسالة مُوجَّهة إلى سيِّداتٍ أصبحنَ يَعِشنَ في زمنٍ لم يَعهدْهُ البَشرُ من قَبل. وتُشجِّعُ الكاتبةُ بناتِ جنسِها لاختيار ما يُوافقُ ذوقَهُنَّ وتطلُّعاتِهنَّ وطبعَهنَّ وميولَهنَّ دونَ خوفٍ أو تردُّدٍ أو وَجَل. فهذا العَصر، كما تقولُ الكاتبة، يُهيِّئُ للمرأةِ الفُرصةَ السانحة، ويفتحُ البابَ لها على مِصراعيهِ لتحقيقِ رغباتِها، شرطَ أن تُجاهِدَ في سبيلِ حُقوقِها وحُرِّيـَّتِها، وتحثُّ الكاتبةُ المرأَة على ألاَّ تخشى الفَشل، وأن تَعرفَ كيفَ تختارُ ما تُريدُه، لأنَّ الرَّجُلَ لا يُفكِّرُ إلاَّ بالثروةِ أو الشُهرة، إضافةً إلى جَمعِ المال. وتختـتمُ المقالَ بقولِها: "اختاري يا عزيزتي ما تُريدين في هذه الحياة، وما يَستهوي قلبَكِ الطيِّب ويُلائمُ أميالكِ الشريفةِ ويتَّفقُ مع ذوقكِ السَّليم. وحكِّمي عقلكِ قبلَ قلبكِ... ولا تخشَي الفشلَ في جِهادك لأنَّه غالبًا ما يأتي بنتيجةٍ حَسنةٍ لك."
وَضعُ الجاليةِ السُّوريَّة-اللبنانيَّة
والواقعُ أنَّ القارئَ يَشعرُ وهو يُطالعُ صَفحاتِ "الرسالة" بما كان يدورُ في مُجتمعِ الجاليةِ آنذاك. فهذه الجريدةُ مرآةٌ عكسَتْ بشكلٍ دقيقٍ وعفويٍّ حياةَ أبناءِ الجاليةِ اللبنانيَّةِ-السُّوريَّةِ في المَهجر، إضافةً إلى إعطاءِ صورةٍ واضحةٍ ولمحةٍ تاريخيَّةٍ عن حياةِ المُجتمعِ الأمريكيِّ الذي عاشوا فيه وتبنَّوه. فلا ننسَ، مثلاً، أنَّ الثلاثينيَّات كانت عصرَ الانحطاطِ الاقتصاديِّ في أمريكا، وأَنَّ مُهاجرينا عانَوا ما عَاناهُ الشعبُ الأمريكيُّ من الضيقِ الاقتصاديِّ والماليّ، وإن سَعى بعضُهم، مِمَّن أصابَهم اليُسرُ وضحكَتْ لهم الثروة، إلى مُساعدةِ غيرهم من أبناءِ الجاليةِ الذين عضَّهم الجوع. ففي عدد رقم 15 حزيران 1933، نقرأُ في رسالةٍ من أوليان خبرًا عن "كرَم مُواطن" يُدعى خطَّار عيد البعقلينيّ شَعرَ مع بني قومِه "الذين أعياهُم العَوَز،" فراحَ يوزِّعُ على "أبناءِ قَومهِ كلَّ ما يحتاجونَ إليه من حُبوبِ الزَّرعِ وقلقاس البذار."
وفي عدد السَّبت 24 كانون الأوَّل، سنة 1932، كاريكاتور مُعبِّرٌ عن قدومِ السنةِ الجديدةِ وتهنئةٌ بالعام الجديد، مع وداعٍ أليمٍ للعام (32) المُنصرم الذي كان "ضربةً على البشريَّةِ ونقمةً من نقماتِ الدهر." وفي عددِ السَّبت، 28 كانون الثاني 1933، نقرأُ تحليلاً للحالةِ الاقتصاديَّةِ السيِّئةِ في الولاياتِ المُتَّحدة. يقولُ الكاتب: "رُبَّما كانت من أسبابِ الأزمةِ الحربُ العالميَّة، وربَّما الحواجزُ الجُمركيَّة وشريعةُ الكحول ودُيونُ الحَربِ التي أثقلتْ كاهل أوروبَّا." ويُضيفُ أنَّه من الأسبابِ أيضًا استعمالُ الآلاتِ الحَديثةِ بَدلَ اليَدِ العاملة، الأمرُ الذي سبَّبَ البطالة؛ ويَقولُ هذا مُستشهدًا برأيٍ لمُراسلِ جريدةِ "التَيمس" المستر دافيس، مُستنتِجًا أنَّه من الأفضلِ لو عُدنا إلى استعمالِ الجيادِ بَدلَ الآلاتِ الحديثة، ومُستشهِدًا بأقوالٍ لموسوليني، منها نصيحتُه للفلاَّحِ الإيطاليِّ برَمْيِ الآلة وإعادةِ استعمال الجياد.
وتتـناولُ الرسالةُ في عدَّةِ مقالاتٍ أمورَ الاقتصاد: ارتفاعَ أُجرةِ العَامِل، ومَحاسنَ النظام الرأسماليّ ومَساوئه، والحالةَ المَعيشيَّةَ في أمريكا آنذاك، وكيف أنَّ الشعبَ الأمريكيَّ عامَّةً قد "اعتادَ على المَعيشةِ الغاليةِ والمُترفة، فلم تعُد الأجورُ الرخيصة كافيةً لسَدِّ حاجاتهِ، وخصوصًا الكماليَّاتِ منها التي أصبحت عندَهُ من لزوميَّاتِ الحياة." وفي إحصاءٍ نقلَتهُ "الرسالةُ" أنَّ الأمريكيِّين بنيويورك يُنفقونَ "445 ألفَ دولارٍ في الأسبوعِ على "البيرة" بعد أن ظلُّوا ثلاث عشرة سنة محرومين من الخمرِ بحكمِ القانون الذي يُحرِّمُ المُسكِرات؛ فلمَّا أُبيحَتْ لهم أخيرًا، هجمَ الأهالي على البيرة هجومَ الظمآن على الماء، فشربوا في الأسبوعِ الأوَّل نصفَ مليون برميل؛ ولمَّا كان عددُ السكَّان في نيويورك يَبلغُ سبعةَ ملايين، فإنَّ مُتوسِّطَ نصيبِ كلِّ فردٍ منهم هو ثمانيةُ ليترات."
وفي افتتاحيَّةِ العدد رقم 61 الصَّادر في 26 آب 1933، وتحت عنوان "أمراض المُجتمع" يُعالجُ مرشد حالة المُجتمع "الخبيثة السائدة"، ويُشبِّهُ الأغنياء بالحوتِ الذي يبتلعُ الأسماك الصَّغيرة، وذلك لخلوِّ المُجتمع تقريبًا من الفضيلةِ والشرفِ والمروءةِ والمُساواة. ويستعين بأقوالٍ لفردريك نيتشه الذي "بشَّر بمبدإ النشوء الطبيعيّ ورُجوع الإنسان إلى طبيعتِه الحيوانيَّة وهمجيَّتهِ الفاسدة ومُنازَعةِ أخيه في البقاء." ويبدو للكاتبِ أن المُجتمعَ قد تبنَّى مبادئَ نيتشه في الصراع من أجل البقاء.
الرسالةُ والأخبار المُتفرِّقة
في الصفحةِ الأولى من العددِ الأوَّلِ المُتاحِ لنا، يتحدَّثُ مُرشِد عن جَريمةِ خَطفِ طفلٍ "عثروا عليه جُثَّةً بالية"؛ ولولا "بقيَّةٌ من شَعرِهِ وخِرَقٌ من قميصهِ لَما عرفوا أنَّه ابنُ لِندبرغ –الطفلُ المَفقودُ منذُ أوَّلِ شهرِ آذار، ومضى على اختطافِهِ اثنانِ وسبعونَ يومًا." ويمضي مَسعودُ في وَصفِ لَوعةِ الأهلِ وسَعْيِ الحُكومة في البحثِ عن الطفلِ وعن الفاعلين، مُستغربًا أن يقعَ حادثٌ كهذا في "بلادٍ تُعَدُّ من أرقى بُلدانِ العالم." ويتطرَّقُ إلى كيفيَّةِ استغلالِ الصِّحافةِ لهذه القصَّة، فيجدُ أنَّه "من العارِ أن تكونَ دُموعُ الوالدَين والدِّماءُ التي تقطرُ من قلبَيهما موضوعًا لتسليةِ الجرائدِ والمجلاَّتِ التي لا يَهمُّها سوى مَلءِ صفحاتِها بالأخبارِ التي تزيدُ الطينَ بلَّة والطنبورَ نفحة، والتي كما نعتقدُ أوصلتِ القضيَّة إلى هذه النتيجةِ المُفجعة." وتَنتهي المقالةُ بلَومِ الحكومةِ التي كان من المُتوجِّبِ عليها أن تجدَ الفاعلين الأشرارَ... لأنَّها مَسؤولةٌ عن الأولادِ كوالديهم أمام المَدنيَّةِ والإنسانيَّة وأمام الله."
ونقرأُ في مكانٍ آخر انتقادًا لاذعًا لبعضِ الشُّعراءِ والكُتَّابِ لإدمانهم معاقرةَ الخمرة والإفراطِ في شُربها علَّها "توقظُ ذاكِرتَهم،" ثم انتقادًا آخَرَ لاختراعِ الراديو الذي "حرَم الجاليةَ من سَماعِ نغماتِ الفونوغراف المُردِّدِ نغماتِ أحاديثِ السُّوريِّين. فالخسارةُ لا تُعوَّض." ويتبعُ ذلك نقدٌ للأزمةِ الاقتصاديَّةِ الخانقةِ التي كانت تمرُّ بها أمريكا في الثلاثينيَّات من القرنِ المُنصرِم.
وفي أكثرِ من عددٍ نقرأُ مقالةً أو قِصَّةً في "الرسالة" مَنقولةً مُباشرةً من جريدةٍ لبنانيَّةٍ.
وهكذا كانت "الرسالة" همزةَ وَصْلٍ لا بين أبناءِ الجاليةِ المغتربين فحَسْب، بل بينهم وبين وَطنهم الأُمّ كذلك. فهذا مثلاً خبرٌ بعنوان "مناظر لبنان على لوح السينما" يصفُ الكاتبُ فيه فِلمًا يُصوِّرُ مَشاهدَ لطبيعةِ لبنان وسوريا ولمعالمهما العُمرانيَّة، ولمأتمِ "النابغةِ اللبنانيّ" جُبران خليل جُبران. وقد عُرِضَ هذا الفِلمُ في مُدُنٍ وولاياتٍ مُتعدِّدةٍ في أمريكا.
وربَّما لا نُغالي إذا اعتبرنا "الرسالة" مرجعًا نستطيعُ عبرَ صفحاته أن نُحصيَ عددَ النشراتِ والجرائدِ العربيَّةِ التي كانت تصدرُ تِباعًا في العشرينيَّاتِ والثلاثينيَّات من القرن العشرين في أمريكا الشماليَّة. وإن يكُن مُعظمُ هذه النشرات قد بقيَ في حيِّزٍ محدودٍ ضيِّق من حيثُ التوزيع والانتشار، إلاَّ أنَّه يُعطينا فكرةً واضحةً عن نشاطِ أبناءِ الجاليةِ وحُبِّهم للاطِّلاعِ والاتِّصالِ الدَّائمِ بمواطنيهم ووطنهم، وتعلُّقهم باللُّغةِ العربيَّةِ أوَّلاً، لأنَّها لُغتهم الأُمّ، وثانيًا، لأنَّ تمكُّنَهم من اللغةِ الإنكليزيَّةِ لم يَكنْ راسخًا بعد. وهذا سبَّبَ ارتياحَهم لهذه الجرائد العَربيَّة التي تُعبِّرُ عن مَشاعِرهم وحَنينهم ونشاطاتهم بلُغةٍ قريبةٍ إلى قلوبهم وقُدراتِهم اللُغويَّة. فإضافةً إلى "الهُدى" و"السائح" و"كوكب أمريكا"، تَرِدُ في "الرسالةِ" أسماءُ "النشرة الأوليانيَّة"، و"النيازك" الصادرة في نياغارا لنجم موسى الأسود، و"الاتّحاد" في ديترويت، و "السمير" النيويوركيَّة، و"الشعب" في ديترويت، ليوسف مراد الخوري، و"لسان العَدل" (1933) لشكري كنعان، و"الحريَّة" في دنبري- كنَّيتيكَت، للخوري نسيب وهبه وإسكندر خلَف وألكسي عازار. ويُطالعنا في "الرسالة" خبرٌ مهمّ عن اتِّحادِ جريدتَي "مسرح الأقلام" في أوليان والـ "النيازك" في نياغارا فولْز في جريدةٍ واحدة.
وإن كُنَّا لا نعرفُ بالضبطِ متَى توقَّفتِ "الرسالةُ" عن الصُّدور ولماذا، وتحتَ أيَّةِ ظروفٍ، إلاَّ أنَّنا على يقينٍ من أمرين اثنَين: أوَّلاً، أنَّ "الرسالةَ" استمرَّت لوقتٍ طويلٍ بعد عامها السادس؛ ثانيًا: أنَّها انتقلتْ في سنواتِها الأخيرة من مرحلة (المخطوطة) إلى نشرةٍ تُطبَعُ على الآلاتِ الحديثةِ طباعةً ميكانيكيَّةً أنيقة. فبالنسبةِ لاستمراريَّةِ "الرسالة" نَراها تدخلُ عامَها السَّابع مُودِّعةً "مراحلها المُنصرمة بابتسامةِ الظافر،" وتستقبلُ عامَها الجديد "بابتسامة الواثق... في جيشٍ من الأنصارِ أصبح كبيرًا بعدَده ومُساعداته وغيرته." وهكذا، من الواضح أنَّ "الرسالة" في عامِها السابع (1933) ظهرَتْ حثيثةَ الخُطى، واثقةً من نفسها، مُتضمِّنةً مقالاتٍ أطولَ وموضوعاتٍ أكثرَ تنوُّعًا مِمَّا كانتْ تُعالجهُ في سنواتِها السابقة. حتَّى من ناحيةِ المَظهر والإخراج والنوعيَّة، أَصبحت الصَّفحاتُ أوضح، والخطُّ أفضل، وتضمَّنتْ عددًا أكبرَ من الإعلانات، وبقيَتْ هيئتها الإداريَّة هي ذاتها: مرشد جرجس مسعود "مُنشئها ومُحرِّرها"، ووديع رزق الله "مديرُها المسؤول"، واستمرَّ اشتراكُها السنويُّ "ريالَين ونصفَ ريال في جميع الجهات، وعنوانها في 71 شارع ستايْت، هورنِل، نيويورك.
وكما ذكرنا سابقًا، انتقلَ مُرشِد إلى مدينة سيراكيوز بين العامين 1934-1935، و"الرسالة" آنذاك في عامها الثامن أو التاسع. واستنادًا إلى نسخةٍ من رسالةٍ مدَّني بها السيِّد ريك جورج، كانت بين أوراق جدِّه مُرشد، وهي مطبوعة وليستْ مخطوطة— وهذا يُثبتُ قولَنا أنَّ مُرشِد مسعود امتلَك آنذاك مطبعةً حديثة، أو هو استعانَ بواحدةٍ لإصدارِ جريدته— وردَ عنوانُ "الرسالة" باللغة الإنكليزيَّة كالآتي:
The Message
Publisher and Editor, M. George
300 Hovey St.
Phone 5-7361
Syracuse, N.Y, U.S.A
وقد غابَ عن العنوان اسمُ وديع رزق الله، المُدير المسؤول.
1.John G. Moses, How the Lebanese Advanced Civilization, Beacon Press, New York, 1997, p.90.
2. Ibid. p.90.
3. ميخائيل نعيمة: "جبران خليل جبران" (بيروت: مُؤَسَّسة نَوفَل، 1991)، ص 151.
4-"جبران والصِّحافة المهجريَّة"، مقال هنري ملكي في مجلَّة "دراسات في الآداب والعلوم الإنسانيَّة"، كُليَّة التربية، الجامعة اللبنانيَّة، بيروت، السنة العاشرة، العدد 11/83. ص 5.
5. مقالتي "الزجل اللبناني"، مجلَّة "صوت داهش"، السنة السادسة، العدد الأوَّل، صيف 2000، ص 68.
6. ميخائيل نعيمة: "سبعون"، المجموعة الكاملة، المُجلَّد الأوَّل، (بيروت: دار العلم للملايين)، ص 314-315.
بين يَديَّ ثلاثةُ مُجلَّداتٍ يَتيمةٍ لصحيفةٍ صَدرَتْ في ولاية نيويورك بين أَواسطِ العشرينيَّاتِ وأوائِل الأربعينيَّاتِ من القَرنِ العِشرين. وهذهِ الصحيفةُ المُسمَّاةُ "الرسالة" كانت، على ما يَبدو، مُعاصِرةً لصُحُفٍ ومَنشوراتٍ عَربيَّةٍ عديدةٍ ظَهرتْ في المهاجر وفَاقَتِ "الرسالةَ" شُهرةً وانتشارًا، لأنَّ القيِّمينَ على تلكَ الصُّحُفِ والكاتبينَ فيها كانوا أَعمقَ خِبرةً وأبعدَ صيتًا وأكثرَ قُدرةً في النواحي المادِّيـَّةِ والسياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ من القَيِّمينَ على "الرسالة". فنحنُ مَثلاً حين نتكلَّمُ على الصِّحافةِ المهجريَّة، نُسرعُ إلى ذِكر "كوكب أميركا" لإبراهيم ونجيب عربـيلي (1888)، و"الهُدى" لنعُّـوم مكَرزل (1898)، و"مرآة الغرب" لنجيب دياب (1899)، و"المُهاجِـر" لأمين الغريِّـب (1902)، و"السائح" لعبد المسيح حدَّاد (1912)، و"الفنون" لنسيب عَريضة ونظمي نسيم (1913)، و"السَّمير" لإيليَّا أبي ماضي (1929).
فـ"الهُدى"، مَثلاً، ما لبثَ صاحبُها أن نَقلَ مكاتبَها من فيلادِلفيا إلى مدينةِ نيويورك عام 1903، بالاشتراكِ مع أخيه سلُّوم مكرزل. وكانت "الهُدى" أوَّلَ جريدةٍ عربيَّةٍ تَقفزُ في نَقلةٍ نَوعيَّةٍ من الطباعةِ اليَدويَّةِ إلى الطباعةِ الآليَّة.[1] وهنا لا بُدَّ من التَنويهِ بإسهامِ سلُّوم مكَرْزل في تأسيسِ مجلَّةٍ أدبيَّةٍ مُهمَّةٍ بعنوان "العالَم السُّوريّ" The Syrian World؛ وقد صدرَت من العَام 1926 حتَّى العام 1932 باللُّغةِ الإنكليزيَّة. وخلالَ حَياتِها القصيرةِ التي لم تتعدَّ الستَّ سنوات، استطاعَتْ أن تَفخرَ بأقلامِ كُتَّابٍ زيَّنوا صفحاتِها بمقالاتٍ رائعة؛ منهم نَذكُرُ، على سبيلِ المِثال، جُبران خليل جُبران، ميخائيل نُعيمة، أمين الرِّيحانيّ، إيليَّا أبي ماضي، ووليَم كاتسفليس –معظمُهم من أعضاءِ الرابطةِ القَلَميَّة- إضافةً إلى المؤرِّخِ اللبنانيِّ فيليب حِتِّي.[2]
و"الفنـونُ" التي صـدَرتْ لخمسِ سنـواتٍ فقط (1913-1918)، وظهرَ منها 29 عَددًا، أسَّسها نسيب عَريضة كمجلَّةٍ أدبيَّةٍ تَصدرُ مرَّةً في الشَهر. وقد مدَّها جُبران بمقالاتهِ ورُسومهِ، وكتبَ فيها، إضافةً إلى نَسيب عريضة ونُعيمة والرِّيحانيّ وأبي ماضي وغيرِهم. وكانت تَنشرُ القصائدَ والمقالاتِ بالفُصحى فقط. ومَعروفٌ أنَّ صاحبَها اضطُرَّ إلى وَقفِ إصدارِها ثلاثَ مرَّاتٍ خلالَ سنواتِها الخَمس لعدَّةِ أسبابٍ، أبرزُها عَدم توافُر الوَرق للطباعَة، والافتقارُ إلى عُمَّالٍ من ذَوي الجدَارة، وعجزُه عن جَمعِ قيمةِ الاشتراكات؛ أو بسببِ تلكُّؤ المُشتركينَ عن دَفعِ الرسومِ المُتوجِّبةِ عليهم، الأمرُ الذي أدَّى إلى عَدمِ تَوفيرِ المالِ الكافي لتغطيةِ نَفقاتِ الطباعةِ والنَشرِ والتَوزيع.
ومثلما يُخبرنا نُعيمة في كتابهِ عن "جُبران"، فقد كانت "الفنون" إحدى ضَحايا الحَربِ العالميَّةِ الأولى. ورُغمَ غَيرَةِ عَريضة ونُعيمة وجُبران وحِرصِهم على مُحاولةِ إعادَتِها إلى الحياةِ وبَثِّ الرُّوحِ فيها، فـ "الفنونُ" غابَتْ إلى غَيرِ رَجعَة. يقول نُعيمة مُعلِّلاً ذلك: "إذْ وجدتُ أَنَّ الخُطَّةَ التي قد رسمَها جبران ونسيب [عريضة] كانت خُطَّةً يسهلُ تطبيقُها على الورَق ويكادُ يستحيلُ تحقيقُها بالعمل."[3] المُشكلةُ الأساسيَّةُ كانت— وبَقِيَت— إيجادَ المالِ الضروريِّ لإنعاشِ الجَريدة؛ وما مِن أحدٍ من الذينَ وَرَدتْ أسماؤهُم أعلاهُ كان يَملكُ النقودَ الكافيةَ لتَمويلِ الجَريدةِ الشهريَّةِ، التي كان نَسيب عَريضة رئيسًا لتحريرِها وراغب مِتراج مُديرًا لأعمالِها، وكانت قيمةُ الاشتراكِ السنويِّ بها خمسةَ ريالاتٍ، والدَّفعُ سَلَفًا.
والجديرُ بالذِكرِ هُنا، أنَّ تاريخَ الصِّحافةِ المهجريَّةِ في سنواتهِ الأُولى، أي بين العام 1862 وإطلالةِ نهايةِ القَرنِ العشرين، كان مَشوبًا بصراعاتٍ ونزاعاتٍ ومُهاتَراتٍ حَملَها اللبنانيُّون مَعهم من مُجتمعاتِهم الضَّـيِّقةِ في بلدِهم إلى أمريكا؛ فانعكَستْ هذه النِـزاعاتُ على صَفحاتِ جَرائدهِم، وعَبْرَ نَواديهِم وجَمعيَّاتِهم التي أسَّسوها في دُنيا الاغتِراب. ففي أمريكا، حيثُ للكلمةِ حُرمةٌ وحُرِّيـَّة، برزَتْ هذه الصِّراعاتُ واضحة، وتَركتْ بصَماتِها على "صفحاتٍ مشؤومةٍ في تاريخِ الصَّحافةِ المهجريَّة."[4]
صحيفةُ "الرسالة" وبداياتُها الصعبة
ونحنُ إنَّما نَذكرُ هذا كلَّهُ لنَلفِتَ الانتباهَ إلى أنَّ العوامِلَ المادِّيـَّةَ وكثرةَ الشائعاتِ والآراءِ والخلافاتِ الصَّحفيَّةِ بين أَبناءِ الجاليةِ التي تسبَّبتْ في احتجابِ بعضِ الصُحفِ المَرموقةِ، كـ "الفنونِ" مثلاً، كلُّها عَوارضُ أصابتْ مَسيرةَ الصِّحافةِ المهجريَّةِ بشكلٍ عامّ، ولم تَسلمْ منها كُبرَياتُ النَشَرات، بما في ذلك "الرسالة" التي نحنُ بصَددِ الكلام عليها. إلاَّ أنَّ "الرسالةَ"، بفضلِ جُهدِ صاحبِها ومؤسِّسِها الدَّؤوب، استمرَّت في الصُّدور، وهي كزميلاتِها، تُعاني "الفقرَ والقِلَّة" مع التلميحِ إلى التوقُّفِ عن النَشر، ولكن دونَ أن تَتوقَّف فِعلاً.
وصحيفةُ "الرسالةِ" بحدِّ ذاتها، لا تُعطينا فكرةً واضحةً عن مُؤَسِّسِها وناشِرها. مُعظمُ المعلوماتِ الواردةِ في هذه المَقالةِ عن صاحِبها، مُرشِد جرجس مَسعود، استَقيتُها من حَفيدِه، السيِّد ريك جورج، المُقيمِ حَاليًّا في مدينةِ سيراكيوز Syracuse، من أَعمالِ ولايةِ نيويورك، إمَّا خلالَ مُقابلاتٍ شخصيَّةٍ، أو عَبرَ البريدِ الإلكترونيِّ من رَسائلَ مُتبادَلةٍ بيننا. أمَّا المُجلَّداتُ الثلاثةُ المُشارُ إليها آنِفًا، فقد كانت مُخبَّأةً بصُندوقٍ في الطبقة السُّفلى من منـزلِ الحَفيدِ الذي، كالكثيرينَ من أبناءِ جيلِه، لا يَقرأُ ولا يَفهمُ اللُّغةَ العَربيَّةَ، لكنَّهُ، والفضلُ هنا لوالدِه، كان على عِلمٍ بوجُودِ هذهِ المَخطوطاتِ ومُدركًا لقيمَتِها الأدبيَّة.
وممَّا ذَكرهُ لي السيِّد ريك جورج أنَّ جدَّهُ مُرشِد مَسعود وُلِدَ في العاشِر من شهرِ تمُّوز (يوليو) عام 1895، في بلدةِ أرصون اللبنانيَّة، ثمَّ هاجرَ إلى أمريكا حَوالى العام 1910 وهو في الخامسةَ عَشرةَ من عُمره. عملَ مُرشد، أوَّلا،ً حائِكًا في مَعملٍ لحياكةِ الحَريرِ في مدينةِ دانبوري Danbury بولاية كَـنِّيتيكَتْConnecticut القريبةِ من نيويورك، حيثُ سكنَ مع شقيقِه شُكري مَسعود وأربعةِ شُبَّانٍ لبنانيِّين، بينهُم والدُ المرشَّحِ السَّابقِ لرئاسةِ الجمهوريَّةِ الأمريكيَّة، السيِّد رالف نادر Ralph Nader. هؤلاء الشبَّان الستَّة سَكنوا في بيتٍ واحدٍ، وعُرِفوا في مُحيطهم آنذاك بـ "الشَباب الستَّة الأرصونيِّـين" –نسبةً إلى مَسقطِ رأسِهم أرصون. وبعد فترةٍ انتقلَ نادر الأبُ إلى مدينةِ وِنستيد Winstead في كَـنِّيتيكَت أيضًا. وما لبثَ مُرشد مَسعود أن انتقلَ إلى مدينةٍ صغيرةٍ في ولايةِ نيويورك اسمُها هورنيل Hornell ، قُبيلَ العام 1914، ليعمَلَ في مَشغلٍ للحريرِ هناك. فمدينةُ هورنيل كانت آنذاك أكبرَ مَركزٍ لإنتاجِ الحَريرِ بعد باترسون Paterson في نيوجرسي New Jersey .
وحسبما يقولُ السيِّد ريك جورج، نقلاً عن والدهِ المُسِنّ، إنَّ جدَّهُ، مُرشد مَسعود، راحَ يُفكِّرُ بإنشاءِ الصَّحيفةِ في مدينةِ هورنيل خلالَ تلكَ الفترةِ نفسها. وبعد حوالى عقدَينِ من الزَمن، زارَ مُرشِد قريبًا له في مدينةِ سيراكيوز، فأعجَبتْهُ المدينة، وهي أكبرُ وأكثرُ تَقدُّمًا من هورنيل، فقرَّرَ الانتقالَ إليها مع عائلتِه بين العامَين 1934-1935، ووجدَ عملاً له هُناكَ في مَشغلٍ للحريرِ أيضًا.
والجديرُ بالذكرِ، هنا، أنَّ السيِّد مُرشد مسعود كانَ مُصِرًّا على تحسينِ نوعيَّةِ الطِباعةِ وإصدارِ أكبرِ عَددٍ ُممكنٍ من الصَّفحاتِ المكتوبةِ بخطِّ اليَد، الأمرُ الذي كان يتطلَّبُ الوقتَ الطويلَ والجُهدَ الجَهيد؛ فشرعَ يُفكِّرُ بطريقةٍ أكثر تِقنيَّةً لإصدارِ صحيفتهِ المطلوبة آنذاك، فابتَدعَ طريقةً أفضلَ لصناعةِ مَطبعةٍ يَدويَّةٍ مُستخدِمًا أُسطُوانتَين شَبيهتَين بالشَّوبك أو المِرقاق استلَّهُما من آلةٍ قديمةٍ لغَسلِ الثياب. وكانت هاتان الأُسطوانتان تُستعملان لعَصر الثيابِ المَغسولة. وبما أنَّ الصَّحيفةَ كانت أصلاً مخطوطةً على وَرقٍ خاصّ، فقد كان مُرشِد يُلصقُ النسخةَ المَخطوطةَ على هاتَين الأُسطوانتَين مُستعينًا بطبقةٍ من الجيلاتين الشفَّاف. وهكذا أصبحَ باستطاعتهِ أن يُمرِّرَ الشوبكَين على الأوراقِ البيضاء المُغمَّسةِ بالجيلاتين، فتُطبَعُ الحروفُ السَوداءُ عليها بدقَّةٍ وسُرعة. وبما أنَّ جورج، ابن مُرشد، كان فنَّانًا يَهوى الرَّسم، فقد كانت مَهمَّـتُه تَزيـينَ بعض صَفحاتِ الجريدةِ برسومٍ كاريكاتوريَّةٍ مُستوحاةٍ من إحدى المقالاتِ المُدرجَة، خاصَّةً المقال الافتتاحيّ.
ويُصرُّ السيِّد ريك جورج، نقلاً عن والدِه، على عَدمِ وُجودِ شُركاءَ لجدِّهِ أَسهموا مع مُرشد في إصدارِ الجريدة، مُؤَكِّدًا أنَّ "الرسالة" لم تُصبحْ في أيِّ وقتٍ من الأوقاتِ شركةً مُساهمة؛ وهذا نقيضُ ما نجدُه في العددِ رقم 22 الصادرِ في 5 تشرين الثاني 1932.
ويذهبُ السيِّد ريك جورج إلى القَولِ إنَّ جدَّه كان على اتِّصالٍ دائمٍ ووَثيقٍ بعديدٍ من رجالِ الدِّين البارزينَ في أمريكا الشماليَّة آنذاك، لِما كان لهؤلاءِ من حُضورٍ مُميَّزٍ وكلمةٍ مَسموعةٍ عند الجاليةِ اللبنانيَّة-السوريَّة. وكان هؤلاء الكهنةُ يُقيمونَ عند وُجهاءِ القُرى التي يَزورونَها. ويُضيفُ—نقلاً عن والدِه—أَنَّه كانت تُستأجرُ أحيانًا قاعةُ احتفالاتٍ كبيرة يجتمعُ فيها كثيرونَ من رجالِ الأدبِ والصِّحافةِ يأتونَ من مُختلفِ أنحاءِ الولاياتِ المُتَّحدةِ للاشتراكِ بمَهرجاناتٍ أو حُضور حَفلاتٍ أدبيَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ أو شِعريَّةٍ يُحييها شُعراءُ المُدُن والقُرى؛ وغالبًا ما تكونُ هذه اللقاءاتُ من نوعِ المُساجَلاتِ الزَّجليَّة، يَتبارَى فيها الزجَّالون بطريقةٍ تُذكِّرُنا بحفلاتِ الزَّجلِ الحَديثةِ التي كانت، وما تزالُ، شائعةً في لُبنان اليوم.[5] ويبدو أنَّ هذه المَهرجاناتِ كانت تَستلزمُ التحضيرَ الوافي، وتُعتبَرُ حَدثًا اجتماعيًّا مُهمًّا ينتظرُه الناسُ ويتوافدونَ إلى حُضورهِ بشكلٍ مُكثَّفٍ ومُستمرّ. ويؤكِّدُ السيِّد ريك، نقلاً عن والدِه، أنَّ جدَّهُ وشقيقَ جدِّه، شُكري، قد زَارا جُبران خليل جُبران أكثرَ من مرَّةٍ في بوسطن، قبل انتقالهما إلى سيراكيوز، وأنَّ جدَّه، صاحبَ "الرسالة"، وجُبران كانا قد تبادَلا الرسائل بالعَربيَّة؛ غيرَ أنَّه لم يُعثَر على أيٍّ من هذه الرسائل. لكنَّنا لا نستطيعُ الجزمَ بحدوث مِثلِ هذا التبادُل ما دُمنا لم نعثر على شيءٍ مادِّيّ يُثبِتُه. ويَذكرُ ريك أنَّ جدَّهُ قد تَرأّسَ وَفْد "الرسالة" مُنضمًّا إلى عدَّةِ صِحافييِّنَ ورؤساءِ تحريرِ جَرائدَ محلِّـيَّةٍ أُخرى إلى مأتمِ جُبران، وأنَّه كتَبَ وَصفًا وافيًا لمأتمِ "نابغة لبنان" طالما كان والدُه يُسهبُ في الحديثِ عنه. غير أنَّ العددَ الخاصَّ بتلك الحقبةِ، أي نيسان 1931، غيرُ موجود، ولا نعرفُ هل حُفِظَ وأين؟ وأخيرًا يَذكرُ السيِّد ريك جورج أنَّ جدَّهُ كان دَؤوبًا على العملِ والقِراءةِ والتَّفكير، وكان يَروي لهُ القِصصَ والحِكاياتِ عن قريتهِ مازجًا الجدَّ بالهَزلِ واللهجةَ اللبنانيَّة العامِّـيَّة بالإنكليزيَّة الشعبيَّة.
تاريخُ صَحيفةِ "الرسالة" وهُويَّـتُها
المجلَّداتُ الثلاثةُ التي بين يدَيَّ هي عبارةٌ عن صَفحاتٍ كبيرةِ الحجمِ مكتوبةٍ بخطِّ اليَد، غيرَ أنَّها في حالةٍ يصعُبُ معها استنساخُها أو تصويرُها، بل تصفُّحها أحيانًا، لأنَّها هشَّةٌ وسَريعةُ العَطَب. كما تَصعبُ قراءةُ بعض سطورِها في مواضِعَ عديدةٍ، لأنَّ حِبرَها قد جَفَّ تمامًا أو مُسِح، فاختفتْ عدَّةُ حروفٍ، وأحيانًا ضاعتْ سُطورٌ بأكملِها. هذا إضافةً إلى وجودِ عديدٍ من الأخطاءِ النحويَّة، لأنَّ لُغتَها العربيَّة هي مَزيجٌ من العامِّـيَّةِ والفُصحى، وفي مواقعَ كثيرةٍ أقربُ إلى المحكيَّةِ الدارجةِ منها إلى الفُصحى البَليغة. و"الرسالةُ"، على ما يبدو، كشقيقاتِها الصُّحف العربيَّة، آنذاك، لم تكنْ في بداياتِها تَصدرُ بشكلٍ مُنتظم، لأنَّ صاحبَها يقولُ إنَّها "تصدرُ في كلِّ فترة وتُرسَلُ لِمَنْ يُراسِلها". ويحملُ العددُ الأوَّلُ مِمَّا بين يَدَيَّ الرقمَ 14، للسنة السادسة، وهو مؤرَّخٌ في 14 أيَّار سنة 1932. وهذا يَعني أنَّ العددَ الأوَّلَ من "الرسالة" كان قد صدرَ في العام 1927، وإن نكنْ لا نَعرفُ اليوم والشهر. والعددُ الذي بين يَدَيَّ يحملُ اسمَ مؤسِّس "الرسالة" ومُحرِّرها، مُرشد جرجس مَسعود، باللُغتَين العربيَّةِ والإنكليزيَّة، كذلك مكانَ صدورِها وعنوانها في هورنيل، نيويورك، رقم 71، شارع ستايت. ومع أنَّ العددَ الأخيرَ من الأعدادِ التي بين يَدَيَّ يحملُ تاريخَ العامِ 1933، فـ"الرسالة" استمرَّ صُدورُها في سيراكيوز، نيويورك، بحُلَّةٍ جَديدةٍ وطباعةٍ أنيقة. يُستَدَلُّ على ذلك من كتابٍ بين يَدَيَّ بعنوان "الكنوز المخزونة" "لناظمهِ لُطف الله جرجورة مَسعد الأرصونيّ، نَزيل سَلما- نورث كارولينا"؛ وقد كُتِبَ على غلافهِ أنَّه "طُبعَ في مَطبعةِ مجلَّةِ الرسالة لصاحِبها ومُحرِّرها –مُرشد جرجس مَسعود." كما إنَّه مذكورٌ أيضًا عنوانُ "الرسالةِ" في سيراكيوز. وهذا الكتابُ عبارةٌ عن مجموعةِ قصائدَ باللُّغةِ العامِّـيَّة؛ وهو يضمُّ 105 صفحات، ولا ذِكرَ فيه لسَنةِ طباعَته، ولكنْ بداخلهِ قصيدة بعنوان "الطوفان" (صفحة 21)، مؤرَّخة في آذار، سنة 1936. فيُفهَم من ذلك أنَّ الكتابَ قد طُبعَ بعد هذا التاريخ. وفي إهداءِ الكتابِ يَقول المؤلِّف:
"أُقدِّمُ هذا الكتابَ إلى الصَّديقِ الصَّدوقِ وابنِ البلدةِ (أرصون) مُرشد جرجس مَسعود الغَيور، مَن اتَّخذَ على عاتِقهِ تنشيطَ الشِعر العامِّيِّ الوَطنيِّ في هذهِ البلاد، وحَرَّم على نفسِه لذَّةَ الراحةِ والنَومِ في سبيلِ تَعزيزهِ والنُهوضِ به إلى أَوْجِ التقدُّم والارتفاع، والذي مِن سَهرهِ وحُسنِ دربتِه أصبحَتْ "رسالتُه" أشهر من نارٍ على عَلَم..."
وقد عَثَرتُ على كتابٍ بعنوان "نفثاتُ مَصدور"، وهو الجزءُ الثاني من مجموعةِ قَصائدَ زجليَّةٍ مُتنوِّعة، بقلم سليم عَطايا صليبا، من الشُّوَير، لبنان. والكتابُ مَطبوعٌ سنة 1939 في مطبعةِ "العرائِس" في بكفيَّا، لبنان. ويذكرُ المؤلِّف على غِلافِ الكتابِ أنَّه "يُمكنُ طلبُ الكتاب من لبنان والمهجر، أمَّا في المَهجر، فيُطلَبُ من الأُستاذ مُرشد جرجس مَسعود، صاحبِ مجلَّةِ "الرسالة" في (سيراكيوز- نيويورك) 300 شارع هاثي [هافي]." فهل يُمكنُ اعتبارُ هذا دليلاً آخرَ على أنَّ مُرشد مسعود استمرَّ في إصدارِ "رسالتهِ" إلى أوائلِ الأربعينيَّاتِ من القَرنِ العشرين؟
يحتوي المُجلَّدُ الأوَّلُ على 15 عددًا من مجلَّةِ "الرسالةِ" مُوزَّعةً بين 14 أيَّار 1932 و17كانون الأوَّل 1932. ويتراوحُ عددُ صَفحاتِ الأعدادِ المذكورةِ بين 7 صفحات و4 صفحات للعددِ الواحد. ويتضمَّنُ كلُّ عددٍ مَجموعةً من الأبوابِ التي تَظهرُ بشكلٍ مُنتظمٍ ودَوريّ. فإضافةً إلى المقالِ الافتتاحيّ، نلحظُ مثلاً تكرارَ ظهورِ الأبوابِ التالية: شَذرات، رسالةُ اليوم، بابُ الشِعر (العامِّيِّ)، رسائلُ القُرَّاء، مَيدانُ الشُّعراء القَوَّالين، أخبارٌ مُتفرِّقة، بابُ العَتابا والميجَانا، نَقدات طائر، رسائل المُدُن، أخبارُ الجاليات، وِلادات ووفيات، إضافةً إلى تغطيةٍ شبْهِ كاملةٍ لحفلاتِ الجاليةِ اللبنانيَّةِ-السُّوريَّةِ ومهرجاناتهاِ في مُختلفِ المَناطق، خاصَّةً في ولايةِ نيويورك.
وكان للرسالةِ مُراسلونَ في عدَّةِ مُدُنٍ وقُرًى وولاياتٍ يمدُّونَها بأخبارِ المُجتمعِ العَربيِّ، وأحيانًا الأمريكيّ، حيثما وُجِدوا. ويُلاحَظُ أنَّ "الرسالةَ" كانت ابنةَ بيئَتِها من حيثُ عدَمِ انحِصارِها في تغطيةِ أخبارِ الجاليةِ العَربيَّةِ فقط؛ فكثيرًا ما نقرأُ أخبارَ المُجتمعِ الأمريكيِّ آنذاك، من حيثُ أحوالُهُ المادِّيـَّةُ والاقتصاديَّةُ والاجتماعيَّةُ والسياسيَّة، لأنَّ أبناءَ الجاليةِ كانوا يَعتبرونَ أنفسَهم أمريكيِّين أيضًا، ماداموا يَعيشونَ في المُجتمعِ الأمريكيِّ ويَتأثَّرونَ مُباشرةً بالسلبيَّاتِ والإيجابيَّاتِ في أوضَاعِه الاقتصاديَّةِ والسياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ وانعكاساتِها على أحوالِهم المَعيشيَّة. فبالرُغمِ من أنَّهم حَاولوا الإبقاءَ على عاداتِهم وتقاليدِهم ونَزعاتِهم الوطنيَّةِ التي حَملوها من بَلدِهم ألأُمّ، فإنَّهم، في أحيانٍ كثيرةٍ، حاوَلوا التوفيقَ بينها وبين تلكَ التي وَجدوها في بيئاتهِم الجديدةِ ووطنِهم الذي تبنَّوهُ عن قَناعةٍ ويَقين.
كما إنَّ مُحرِّر "الرسالة" كثيرًا ما كان يُثيرُ مَوضوعاتٍ جَديدةً ويَطرحُ أفكارًا تَسترعي انتباهَ القُرَّاءِ واهتمامَهم. ففي أواخِر المُجلَّدِ الأوَّل، وعلى مَدى صَفحاتِ المُجلَّدين الثاني والثالث، نَلحظُ رُدودًا كثيرةً لموضوعاتٍ مَطروحة، يَبدو أنَّها كانت مَثَارَ جِدالٍ دائمٍ بين أَفرادِ الجاليةِ مِثل: "أيُّهمَا أفضلُ لنا في مَهجرِنا، المَدارسُ أمْ الكَنائس؟" أو "الجرائدُ أم الجمعيَّات؟"؛ فـ "الرسالةُ"، من هذهِ الناحية، هي تأريخٌ لتلكَ الحقبةِ في حَياةِ الجاليةِ اللبنانيَّةِ-السُّوريَّةِ في أمريكا الشماليَّة.
ويُعتَـبَرُ العددُ رقم 22، الصادرُ في 5 تشرين الثاني 1932، نُقطةَ تحوُّلٍ في مَسيرةِ "الرسالة"؛ ففيه إظهارٌ للضائقة المادِّيـَّة التي تمرُّ فيها الصحيفة. وكثيرًا ما لمَّحَ مُرشد إليها، حاثًّا المُشتركينَ على دَفعِ بَدلِ اشتراكِهم تحتَ طائلةِ المسؤوليَّةِ الشخصيَّة وتمنُّع إرسال الأعدادِ الجديدةِ للمُتأخِّرين بالدَفع؛ أو أَنذرَ باحتجابِ "الرسالةِ" عن الصدورِ وإقفالِ مكاتِبها نهائيًّا. ومن الجدير بالذكر أنَّ البلادَ بكامِلها (مثلما نَقرأُ في "سبعون" نُعيمة، ص 574)، كانت آنذاك تَمرُّ في ضَائقةٍ ماليَّةٍ واقتصاديَّةٍ حَرِجة، والبطالة مُتفشِّيةٌ بين أبناءِ الجالية. فبدلاً من وَقفِ إصدار "الرسالة"، وإن يكُنْ إلى حين، مثلمَا فَعلَتْ كُبَرياتُ الصُّحفِ العَربيَّةِ في ذلك الوقت، كـ "السائحِ" مثلاً، إذْ طلبَ عبد المسيح من نُعيمة أن يكونَ شريكًا مَعه ("سبعون" ص 493)، حوَّلَها مُرشِد إلى شركةٍ مُساهمةٍ مؤلَّفةٍ "...من رجالِ حَزمٍ ووطنيَّةٍ وإخلاص...وقد رَأتِ الشَّركةُ أن تُصدرَ "الرسالةَ" مرَّةً في الأسبوعِ بأربعِ صفحاتٍ فقط، (بدلاً من مرَّةٍ في كلِّ فترةٍ وإنْ بعددٍ أكبرٍ من الصَّفحات) نَظرًا للظروفِ الحاضِرة، إلى أن تَنفرجَ الأزمةُ الخانقةُ وتعودَ الحالةُ الاقتصاديَّةُ إلى الانتظام." وبَدءًا من ذلك التاريخ، أُضيفَ اسمُ وديع رزق الله مديرًا مسؤولاً، وبقيَ اسمُ مُرشِد مَسعود تحتَ لقبِ "مُنشئها ومُحرِّرها". وبقيَ الاشتراكُ السنويُّ ريالَين ونصفَ ريالٍ في جميعِ الجهَات، وعنوانُ "الرسالةِ" بَقيَ كذلك مِثلمَا كان. ومنَ اللافتِ للنظر، أنَّ المقالَ الافتِتاحيَّ المَحصورَ بهذا الخَبر "تأسيسُ الشَّركةِ المُساهِمة" قد كتبَهُ هذه المرَّة، الأُولى والأخيرة، مُديرُ "الرسالةِ" المسؤولُ الموقِّعُ عن الشَّركةِ المُساهمة، السيِّد وديع رزق الله، وفيهِ أصَرَّ على أن تكونَ جميعُ المُراسلاتِ والمَقالاتِ والأخبارِ المُرسَلةِ إلى مكتبِ الصَّحيفةِ، من ذلك الحين وصاعدًا، مُوقَّعةً بإمضاءِ أصحابِها، وعلى أنَّ "كلَّ كِتابةٍ تُرسَلُ للنشرِ وتكونُ غُفْلاً من التوقيعِ يُرفَضُ نَشرُها." وهذا إشارةٌ إلى مَنشوراتٍ سابقةٍ غيرِ مُذيَّلةٍ بتوقيعِ أصحابِها، كانت قد أثارتْ تأويلاتٍ وحَسَّاسيَّاتٍ في السابق، نَرَاها في أعدادٍ كثيرةٍ من الرسالة. وتجدرُ الإشارةُ هنا إلى الكلمةِ المُختصَرةِ التي ذيَّلَ بها مُرشِد الصَّفحةَ الأولى من العَددِ المُشارِ إليه، قائلاً: "خبِّروهم أنَّ "الرسالةَ" شركةٌ لا طائفيَّة ولا مَذهبيَّة، وأنَّ مُديرَها المَسؤول مارونيٌّ، ومُحرِّرها أُرثوذكسيٌّ، غيرَ أنَّ مَذهَبَ الرسالةِ وشعارَها هو النَزاهةُ والإخلاصُ وخِدمةُ الطوائفِ على السَّواء، فلا يجرِّبوا أن يَلعبوا بالنَّار."
عرضٌ سريعٌ لمحتَوياتِ الأعدادِ لعامَيْ 1932 و1933
فيما يلي عرضٌ مُلخَّصٌ لأهمِّ مُحتوياتِ المُجلَّداتِ الثلاثةِ التي بين يَدَيَّ:
نُذكِّرُ أنَّ ما أسميناهُ "المُجلَّد الأوَّل" هو في الحقيقةِ حَلقةٌ في سلسلةِ مُجلًَّداتِ "الرسالةِ" التي كانت، حينَ صُدورهِ في 14 أيَّار سنة 1932، في سنتِها السَّادِسة. وفي المقالِ الافتتاحيّ يَبدو مُرشد مُتأفِّفًا تَعِبًا، يَشتَكي من الضائقةِ الماليَّةِ التي تُعاني منها الصَّحيفةُ في عامِها السادس، ويَصفُها بكلامٍ يُذكِّرُنا بقولِ نُعيمة عن "السائح" عام 1919 ("سبعون"، ص 418). ففي سنواتها الخمس الأُولى، يقولُ المُحرِّر، كانت هذه الصَّحيفةُ "عَرجاءَ تتوكَّأُ على عُكَّازِ صاحبِها الرَكيكة... فكانت كالمَشلولِ أو كمَنْ هو في طَورِ النِزاع، تَصدُرُ مَرَّةً في كلِّ فترةٍ بكلماتٍ مُتقطِّعةٍ كَمَن يَهذي، وبأحرفٍ مَمحيَّةٍ كصحيفةٍ أكلَ الدهرُ عليها وشَرِب." ويُسرعُ إلى تأكيدِ أنَّ الذنبَ في ذلكَ ليسَ تقصيرًا منه، بل لأنَّ الصَّحيفةَ "خُلِقَتْ فقيرةً وحَقيرةً حتَّى في عينِ صاحِبها." لكنَّه ثابَر وكافحَ واستمرَّ في إصدارِها، لأنَّه صَحفيٌّ عِصاميٌّ مُلتزمٌ أصالةَ الكلمة، مَدفوعٌ وراءَ "اللذَّةِ في الكتابةِ وتصفُّحِ الأوراقِ ومَحبَّةِ الأدبِ والأُدباءِ والرَّغبةِ في المَبادئِ التي أنشَأنا "الرسالةَ" لأَجلِها." ولولا ذلك، "لكُنَّا ضَربْنا بها عُرضَ الحائط، وتَخلَّصنا من الأتعابِ والخسائرِ والمَرارةِ والآلامِ التي نَلقَاها في سبيلِ إصدارِها." ويُخبرُنا مُرشِد بأنَّه راحَ يُغالبُ الزمانَ ويَجهدُ في تحسينِ صَحيفتِه وتَرقيتِها "ولو بدون فائدة،" حتَّى إنَّه تمكَّن، بعد عَناءٍ طَويلٍ، "من اختراعِ مطبعةٍ يَدويَّةٍ نقدرُ بواسطتِها على إصدارِ أُلوفٍ من الأعدادِ والنُّسَخ بخطٍّ أوضح، ولكنْ بخسارةٍ أكثر وتكاليف أوفر." وهنا، يُسرعُ إلى تحيَّةِ المُناصرينَ والأصدقاءِ والقُرَّاء، آمِلاً أن يكونَ التَّحسينُ الذي طَرأَ على نوعيَّةِ الطِّباعةِ اليدويَّةِ عندَ حُسْنِ ظَنِّهم، طالبًا إليهم استمرارَ الدَّعمِ والغَيرَة، لأنَّ "الرسالة"، وإن تكنْ في عامِها السَادس، "لا تزالُ في مَدرسةِ الأدبِ طِفلة، وفي الصُّدورِ مَرَّةً في كلِّ فَترة." ويؤكِّدُ أنَّ مَهمَّة "الرسالة" هي أن تكونَ "صِلةَ وَصْلٍ" بين أبناءِ الجاليةِ اللبنانيَّةِ-السُّوريَّةِ، وأن تُغطِّيَ أخبارَهم، خاصَّةً، وأخبارَ المُجتمعِ الأمريكيِّ عامَّةً، في نواحيهِ الاجتماعيَّةِ والسياسيَّةِ والاقتصاديَّة.
ومعظمُ مُحتوياتِ المُجلَّدِ الأوَّلِ تندرجُ تحتَ المَوضوعاتِ التالية:
أخبارُ المُجتمع، الاتَّحادُ الوطنيّ، بَدل الاشتراكِ بالصَّحيفة، انتقادُ أزياءِ بعضِ الأُدباءِ المُتنوِّرين، أخبارٌ مُتفرِّقة، بابُ الشِّعر، أخبارٌ عن جَرائدَ مُعاصِرة "للرسالة"، فيلسوف الفرَيكة.
وإنْ كنتُ فصَّلتُ الكلامَ على بعضِ هذه العَناوين، فحِفظًا للأمانةِ العِلميَّة، ولترجيحي عَدمَ وجُود المجلَّة في أيِّ مكانٍ آخَر، لأنَّ المَخطوطةَ التي تهيَّأتْ لي عَادتِ الآن إلى بيتِ أصحابِها وهي، مثلما تسلَّمتُها وأعدتُها، في حالةٍ هشَّةٍ وهزيلة.
"الرسالةُ" وموضوع الوطنيَّة
تَبقَى الوطنيَّةُ مَادَّةً دَسِمة. فإنَّنا نجدُ في كلِّ عددٍ من أعدادِ "الرسالةِ" تعليقًا على الوضعِ السياسيِّ والاقتصاديِّ في البَلدِ الأُمّ. ويعتبرُ مُرشد أنَّ مُشكلتَـنا في لبنان و"بليَّتَـنا" هي "زعامتُـنا". ويحملُ على زُعماءِ الأُمَّةِ الذين وَضعوا المَصالـحَ الفَرديَّةَ فوقَ مَسؤوليَّةِ الوطن في وَصْفٍ يُذكِّرُنا بكتاباتِ جُبران. ويختَتمُ مَقالةً له بقوله: "فيا وَيلَ أُمَّةٍ تَتقاتلُ فيها الزَّعامةُ وتَقتَتِل. ويا ويلَ قومٍ لا تتَّحدُ مَبادئهُم ولا يَعرفونَ للإخلاصِ والإخاءِ مَعنًى، ويا ذُلَّ شَعبٍ يَنفخُ زعماؤه ببوقِ الخلافِ والانقسام، فيا عصرَ الجهالةِ سلامٌ عليكَ وسلامٌ على العصورِ المُظلمة."
وفي مقالٍ آخر بعنوان"الاتِّحادُ الوطنيُّ"، يُعالجُ الكاتبُ "وديع" مَوضوعَ الوحدةِ والاتِّحاد، ويَنعى "تجريدَ أبناءِ الوطنِ من التَربيةِ الوطنيَّةِ الصَحيحة،" ويعزو ذلك إلى "الغاياتِ والمآربِ الشَّخصيَّةِ ومحبَّةِ الذَّات"، ويُعطي بُرهانًا من تاريخِ لبنان في عهد المَعنيِّ الكبير، "أمير لبنان"، حين كان الشعبُ اللبنانيُّ كُتلةً واحدةً يَسيرُ تحتَ قيادَتهِ "مُتَّحدًا بطوائِفهِ وزعامَاتِه،" ثمَّ كيفَ تَدخَّلت "اليَدُ الأجنبيَّةُ" وأثارتِ الفِتَن، خاصَّةً "ثورةَ الستِّين المشؤومة." ويُلاحظُ الكاتبُ أَنَّ الشعبَـين اللبنانيَّ والسوريَّ قد عانَيا من تلك الفِتَن، فيقول: "والشعبُ السوريُّ لم يكُن أَفضلَ من الشعبِ اللبنانيِّ لَمَّا التوَت غاياتُه وفسدَت أَحكامُه وامتدَّت أَيدي التخريب إلى صفوفِه الوطنيَّة."
وفي مَقالٍ آخر، يُذكِّرُ الكاتبُ بأيَّام "السُّخرة" في لبنان وسوريا، يومَ كانت البلادُ تَرزحُ تحتَ نيْرِ الحُكم التركيِّ وتُسخِّرُ (المكاريَّة) "بحَمْلِ حوائج الدولةِ من بيروت إلى الشام."
ويروحُ كاتبٌ آخَرُ ينتقدُ موقفَ "السوريِّـين" (أي السوريِّـين واللبنانيِّـين) غيرَ المُوحَّد، لأَنَّ الوطنيَّةَ عندهم "اسمٌ لغيرِ مُسمًّى، والنعرات والاختلافات عندهم واضحة، خاصَّةً في "انتخاب رئيس لبنان." فالمُرَشَّحون من "[حبيب باشا] السَّعد إلى [بشاره] الخوري، إلى [إميل] إدّه"، جميعُهم موارنة، "وكلٌّ منهم خصمٌ للآخَر. ويتمنَّى أن يكونَ المُنتخَبُ مُسلِمًا أَو أرثوذكسيًّا، ولا يكون مُزاحمه المارونيّ." ويتأَسَّفُ الكاتبُ لحالة البلاد التعيسة، بعد أَن يُعطيَنا أمثلةً عديدةً عن الوحدةِ الوطنيَّةِ من التاريخِ المُعاصر لليابانِ والصِّين "حيثُ استماتَ المُواطنونَ، رجالاً ونساءً بالدِّفاعِ عن وطنهم."
ويحملُ كاتبٌ آخَرُ على انعدام الوحدة في بلدِنا، لأنَّ الشرقيِّـين لا يعرفون من الوحدة إلاَّ اسمَها فقط، ويُؤكِّدُ أنَّ "الاتِّحادَ بعيدٌ عنَّا كبُعدِنا عن السماء،" وأنَّه صدَقَ مَن قال: "اتّفَقنا على أَن لا نتَّفق... لأَنَّنا شعبٌ حَسود، وقلوبنا مُخدَّرة بأَفيون الحسَد."
ويُعلِّلُ كاتبٌ آخَر غيابَ الرُّوحِ الوطنيَّةِ بانعدامِ التربيةِ الوطنيَّةِ الصَحيحَة التي من أركانِها "أوَّلاً، محبَّةُ الوطن؛ وثانيًا، حُرِّيـَّةُ الأديان؛ وثالثًا، حُرِّيـَّةُ القَول؛ ورابعًا، المُساواةُ؛ وخامسًا، الاتِّحاد." وهذه مبادئُ تبَلوَرتْ، ولا شكَّ، عند المُهاجرين بعد أن تنسَّموا مَناخَ الحُرِّيـَّةِ في أمريكا، فراحوا يُقارنونَ ويتحسَّرونَ على حالةِ بَلدِهم الأُمّ.
ويؤكِّدُ الكاتبُ سمعان يوسف سمعان أنَّ "المُهاجرين، الآن، أقربُ إلى التفاهُمِ والاتِّحادِ من الماضي، لأنَّ التعصُّباتِ الطائفيَّةِ التي كانت قبلاً من أشدِّ الأدواءِ فتْكًا بمَشاريعِهم العموميَّةِ قد خفَّتْ بالمئةِ خمسةً وسبعين، ولم تَعُدْ مَوجودةً إلاَّ في الأفرادِ الذين يتَّخذونَها، بعض الأحيان، سلاحًا لنَيْلِ غاياتِهم الشَّخصيَّة."
وفي خبرٍ آخَر من "الوطن القديم... لبنان" تُثني "الرسالة" على أَمر المسيو بونسو، المندوب السامي الفرنسيّ، بحَلِّ مجلس النوَّاب اللبنانيّ عام 1932، لأنَّ النوَّاب "كثيرين [كثيرو] الكلام، قليلي [قليلو] الأفعال لمصلحة وطنِهم." وتُعلِّقُ بالقول: "فشكرًا له" لأنَّ الحُكَّامَ "غافلون عن الشعب تمامًا." وفي خبرٍ آخَرَ من لبنان أَنَّ أُستاذًا عُيِّنَ في إحدى المدارس الحكوميَّة وهو لا يُحسِنُ توقيعَ اسمِه. فتُعلِّقُ الصحيفة بكلمة "فتأَمَّلوا".
ويؤكِّدُ كاتبٌ آخَر أنَّ أبناءَ الجاليةِ اللبنانيَّة-السوريَّة هم في أمريكا "قومٌ واحدٌ تحتَ عَلَمِ الخطوطِ والنجوم"، ولكنَّهُ يتساءلُ في آنٍ معًا: "لماذا احتقارُ أنفُسنا؟" ويَعيبُ على أبناءِ الجاليةِ في حَفلة "نياغارا فولْز" رَفْعَ العلَم الأمريكيِّ بدون العَلَمينِ السُّوريِّ واللبنانيّ.
وفي عدد 12 تشرين الثاني 1932، يورِدُ مُرشد مسعود عددًا كبيرًا من الحِكَم البَليغة المُستوحاة من أَقوال جبران، في موضوعِ الدِّين والأخلاق. وفيه مقال آخر عن تَغييرِ أبناءِ الجاليةِ السوريَّة اللبنانيَّة المُتعمَّدِ لأسمائِهم في أميركا "ليتأَمرَكوا". يختمُ الكاتبُ مقالَه بقوله: "مَن سمَّى ابنَه أو بنتَه اسم [اسمًا] أجنبيّ [أَجنبيًّا]، تبرَّأ من عُروبَته."
وفي عدد 4/2/1933 رسالة من بوسطن يحتجُّ فيها صاحبُها على إهمال اسم لبنان من التغطية الإخباريَّة لمهرجانٍ أُقيمَ في أُوليان- نيويورك، وذلك لأنَّ المُراسِل شملَ اللبنانيِّـين، رغمَ استقلالهم، باسم السوريِّـين.
وفي عدد 28 أيلول 1932، وتحتَ عنوان "أشواك وأزهار"، كلمةٌ عن "الأديب الكبير أمين الرِّيحانيّ" جاء فيها: "أمين الريِّحاني، فيلسوفُ الفريكة، كاتبٌ لا أحد يجهلُ مَقدرتَهُ الكتابيَّة، وخصوصًا دِفاعهُ عن العربِ وحقوقهم، وقد حبَّر عِدَّةَ مقالاتٍ سياسيَّةٍ صوَّر فيها العَربَ شعبَ حضارةٍ وأدبٍ جمّ، وفضَّلَ العربَ الرُحَّل على بَني وطنِه الأصليّ لبنان..."
وباختصار، فإنَّ ما نُشرَ في صَحيفةِ "الرسالة"، يُعطينا فكرةً واضحةً عن مَوقفِ أبناءِ الجاليةِ اللبنانيَّة، آنذاك، من المواقف السياسيَّةِ السائدة ومُؤتمرِ باريس المُتعلِّق بشؤون لبنان خاصَّةً والوطن العربيِّ عامَّةً، واطِّلاعِهم على الأمورِ السياسيَّةِ الجاريةِ في أمريكا وأوروبَّا والشرق الأوسط، ويُظهر اهتمامَ أبناءِ الجاليةِ عامَّةً بوحدةِ لبنان واستقلالِه، مع الحفاظِ على حُسنِ الجوارِ بينهُ وبينَ إخوانهِ العَرَب. وخلافًا لِما وردَ عن موقف الريحانيّ، مثلاً، نقرأُ أَخبارًا أُخرى تُطري موقفَ جبران "اللبنانيّ الصميم" و"نابغة لبنان".
وفي عدد 4 شباط 1933، ورَدَ مقالٌ عن زيارةِ صاحبِ جَريدةِ "الهُدى" الأستاذ سلُّوم مُكَرْزل إلى بَفَلوBuffalo بولاية نيويورك، لحضورِ حَفلةٍ عَامِرةٍ أقامتْها جمعيَّةُ فُرسان لُبنان. ويصفُ المقالُ اللقاءَ الحافِل الذي أُقيم لمكَرْزل ودامَ إلى ساعةٍ مُتأخِّرةٍ من الليل. ويَشعرُ القارئُ بمكانةِ مكرزل وما كان له من قِيمةٍ واعتبارٍ لدَى أبناءِ الجاليةِ اللبنانيّةِ-السُّوريَّةِ آنذاك. وكثيرًا ما أشارَ الكاتبُ إلى سلُّوم بنعتِهِ بـ"النمر اللبنانيّ"، و"صاحبِ الموقفِ الأصيل" و"الخطيب المُفوَّه"...والذي "ما إنْ ذُكرَ اسمهُ حتَّى دوَّت القاعةُ بتصفيقِ الإعجابِ والاستحسان..."
ويتكلَّم مُحاضرٌ آخر يُدعىأنطوان كمَيد، فيُذكِّرُ بالراحلِ الكبير نعُّوم مكرْزل "وأفضالِه"، ويَلفتُ نظرَ الحاضرينَ إلى حَديثٍ كانَ قد جَرى في وقتٍ سابقٍ بحضورِ صاحبِ "الهُدى"، الذي يَبدو أنَّه كانَ وثيقَ الصِّلةِ بالجالياتِ اللبنانيَّة المُنتشرةِ في مُختلفِ أنحاءِ الولاياتِ المُتَّحدة. وفَحوى هذا الحديثِ الكلامُ على تأسيسِ "جمعيَّةِ الاتِّحاد"، إذْ يُشكَّلُ لها مجلسٌ يضمُّ ممثِّلينَ عن مُختلفِ الجالياتِ اللبنانيَّةِ في أمريكا الشماليَّةِ لتعزيزِ المَوقفِ اللبنانيِّ في المَهجر. وممَّا يسترعي النظرَ أنَّ المُحاضِرَ والحاضرين أصرُّوا على أن يكونَ صاحبُ "الهدى" مُهتمًّا بهذا الأمر اهتمامًا شخصيًّا. ويؤكِّدُ المُحاضُر قائلاً: "لتنفيذِ هكذا فكرةٍ يجبُ أن يَشرعَ بها رجلٌ كصاحبِ الهُدى، فهو وحدَه بقوَّةِ هُداهُ يَقدرُ أن يُحقِّقها... [لأنَّ] الهُدى جريدةُ المَهجرِ الوحيدةِ التي تَربطُ شتاتَ شملنا الاجتماعيّ. وبوُجودِ أستاذنا وعزيزنا سلُّوم وبجهودِ مُحبيِّه وغَيرةِ مُناصريه، فالهُدى حيَّةٌ ما دامَ سلُّومها."
الشعرُ والشعراء
إنَّ بابَ الشِّعرِ معظمُه بالعامِّـيَّة. وهو يشتملُ على الزَّجل، والمُساجلاتِ الشعريَّة بين شُعراءَ مُتعدِّدين من مُختلفِ المناطقِ الأمريكيَّة، ويُعَدُّ من أَبرزِ الأبوابِ التي فَتحت "الرسالة" صَدرَها لها. وقد شجَّعت "الرسالةُ" الشُّعراءَ بنَشرِ أشعارِهم وأزجالِهم على صفحاتِها. وكان بين هؤلاءِ الشُّعراء والقوَّالين مَن أصبحَ فعلاً من شُعراءِ الجريدةِ الدَّائمينَ الذين ظهرتْ قصائدُهم في أعدادٍ مُتلاحقةٍ منها. وتجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ القليلَ من هذه القصائدِ كان بالفُصحى، لكنَّه لم يَخلُ من الأخطاءِ اللُّغويَّة. وتَتنوَّعُ المَوضوعاتُ التي تَناوَلها الشُعراءُ، وتَتوزَّعُ بين مُساجلاتٍ ورُدودٍ خاصَّة. وهي تَتناولُ النواحيَ الاجتماعيَّة، والسياسيَّة، والاقتصاديَّة ونشاطاتِ الجالية، وحَنينَ المُهاجر، والوطنَ الأُمّ لبنان، والدِّينَ والكنيسة، وما شَابَه ذلك، إضافةً إلى الحكمةِ والرثاء والنَّدب.
وفي عدد كانون الثاني 1933 نصٌّ لخطابٍ ألقاهُ شَقيقُ صاحبِ جريدة "الرسالة" في حفلةِ تكريميَّة أقامَتها الجاليةُ السُّوريَّة-اللبنانيَّة في دنبري، كنَّيتِكَت، في الثاني والعشرين من الشهرِ المذكور، وذلك للترحيبِ بالشاعر إيليَّا أبي ماضي. ويتطرَّقُ صاحبُ الخطاب في كلمته إلى تعريف "الشاعر" عامَّةً مُستوحيًا بعضَ ما قاله جبران.
"الرسالة" وموضوع رجال الدِّين
وبما أنَّ رجالَ الدِّين أَدَّوا دَورًا مُهمًّا في إدارةِ شؤونِ الجاليةِ في شماليِّ أمريكا، فلا تَخلو صفحاتُ "الرسالةِ" من تَغطيةِ بعضِ أخبارهِم وتنقُّلاتِهم، تارةً بالمَديح، وطورًا بالذمّ. ففي عدد آب 1932، مثلاً، نقرأ مَقالاً بعنوان "إله الخير وإله الشرّ"، فيه يُقارنُ الكاتبُ بين جماعةِ الخيرِ وأهلِ الشرِّ مُشبِّهًا الأخيرَين بإلهٍ رعديدٍ أفاقَ يَومًا وتَعمَّدَ زرْعَ الحَسدِ والحِقد والغيرةِ والطمعِ في قلوبِ النَّاس، والكهنة من بينهم. وفي المقال تَرِدُ تشبيهاتٌ كثيرة تُذكِّرُنا بلُغة جبران وأُسلوبِه وتأثيره في الكُتَّاب.
وفي عدد 20 تشرين الأوَّل 1932، نشَرت "الرسالة" مُذكِّرات مُواطنٍ لبنانيٍّ ملأى بالنَّقدِ لرجالِ الدِّين الذين أساؤوا استعمالَ الرسالةِ الكهنوتيَّة. وتطرَّق الكاتبُ إلى ديونِ الكنائسِ المُتراكمةِ في جالياتٍ مُتعدِّدة، وأكَّدَ أنَّ المُسبِّب الأوَّل "لهذه الديون هو الكاهن". هذا إضافةً إلى عدَّةِ مقالاتٍ تُفصحُ عن ردَّةِ فِعْل القُرَّاء على هذا الشأن. وفي عدد 26 تشرين الثاني من العامِ نفسه، يَظهرُ مَقالٌ آخَرُ فيه انتقادٌ لاذعٌ لبعضِ الكَهنةِ وسلوكِهم على المَذبحِ ودَاخلَ الكنيسة. كما يَكتبُ أحدُ النقَّادِ مُنتقدًا طولَ القدَّاس، ومَللَ الرعيَّة بأثنائه. وينتقدُ الكاتبُ الكهنةَ الذينَ يمتهنونَ لعبَ الوَرقِ واختلاسَ أموالِ الكَنيسة.
ومن الأخبارِ التي وردَت في هذا المجال واستحوذَتْ على قِسطٍ وافرٍ من صَفحاتِ الأعدادِ الأخيرةِ المتوافرةِ لدَينا، خبرُ زواج أَحدِ الأساقفة الأُرثوذكسيِّـين بفتاةٍ عمرُها 22 سنة، بينما هو في سنِّ الخامسةِ والخمسين. وهذه الحادثة أثارتْ نقمةً عارمةً ظهرَت انعكاساتُها على صفحاتِ "الرسالة" عبرَ أعدادٍ مُتلاحقة. وواضحٌ أنَّ "الرسالة" وقرَّاءَها اعتبروا هذا العَملَ خَرقًا للشرائعِ وانتهاكًا لمؤسَّسةِ الزواجِ والقوانينِ الكنَسيَّة. أمَّا جريدة "النيازك" الصادرة في نياغارا فولز بولاية نيويورك، فقد تبنَّتْ وُجهة نظر المُطران المذكور، ونَشَرتْ دفاعَهُ عن نفسهِ ودفاعَ أصحابه عنه. ودارتْ بين الجريدتين حِواراتٌ ومُناقشاتٌ مُثيرة لا تخلو من الإهانات. وفتحتِ "الرسالةُ" بابًا جديدًا للقرَّاء والنقَّادِ حول تحليلٍ لموضوع "الطلاق الكنَسيِّ أسوةً بالطلاقِ المَدنيّ." وفي عدد رقم 61 الصَّادر في 26 آب 1933، نقرأُ رسالةً جوابيَّةً مُطوَّلةً من الأرشمندريت أنطونيوس بشير إلى مُرشِد مسعود، صاحب "الرسالة"، الذي كان، على ما يَبدو، قد بعثَ بأكثر من رسالةٍ وسؤالٍ إلى أنطونيوس بشير لما كانت له من مكانةٍ مَرموقةٍ وساميةٍ عند أبناءِ الجالية، يَسألهُ رأيًا وفَتوى في حادثةِ زواجِ المطران. وتجدرُ الإشارةُ هنا إلى رسالةٍ سابقةٍ من أنطونيوس بشير نُشِرتْ في عدد 24 كانون الأوَّل 1932، وفيها يَعِدُ "الرسالة" بأنَّه سيُرسلُ إليها لاحقًا ترجمةً عن الفرنسيَّة لقِصَّةٍ بعنوان "الواجب" للكاتبِ الفَرنسيِّ الشهير هنري بردو. وكانت "الرسالةُ" تُشجِّع نَشرَ القِصص الأجنبيَّة المُترجمة، وإن هي لم تُدرِج بابًا خاصًّا بها. ففي أكثر من عددٍ نقرأُ ترجماتٍ لكُتَّابٍ أجانب. وآخر ما وَرد كان ترجمةً لقصَّةٍ بعنوان "غرور الوهم" للكاتبِ الفرنسيّ فولتير.
وإليك صورة عن رسالة الأرشمندريت بشير:
يوضع هنا نصّ الرسالة المخطوط،
تُصَوَّر الرسالة تصويرًا
"الرسالة" وموضوع المرأة
لم تُهْمِل "الرسالةُ" ذِكرَ المرأةِ (الأُمِّ والزَّوجةِ والابنة)، ونَشرِ المقالاتِ في الدِّفاعِ عنها وضرورةِ تعليمها وإعطائها حقوقَها كامِلة. غيرَ أنَّ مَقالةً وَحيدةً نُشِرَتْ في عددِ أيَّار 1932، بعنوان "أعدى أعداءِ المرأة"، وتضمَّنت تَرجمةَ أقوالٍ للفيلسوفِ الألمانيِّ شوبِنهَوَر في المرأة— وهي بالطبع ليستْ أقوالاً إيجابيَّة— أثارتْ غضبَ القُرَّاء؛ فانهالَتِ الرُّدودُ والرسائلُ على مكتبِ "الرسالة" تُهدِّدُ وتتوعَّد، الأمرُ الذي حَدا بمُرشد، رئيس التحرير، إلى كتابةِ رَدٍّ تحتَ عنوان "الخطيئة المُميتة"، وذلك في عدد رقم 15 الصَّادر في حزيران 1932، وفيه إيضاحٌ واعتذارٌ شديدٌ عمَّا وردَ في مقالةِ العددِ السابق، وتنصُّلٌ من التهمة المُوجَّهة إليه. وعلى امتدادِ صفحاتِ الأعدادِ اللاحقة تتوالى مقالاتٌ في الدِّفاعِ عن المرأةِ وحقوقِها كتبَها مُرشِد وغيرُه من الكتَّاب، تحتَ عنوان "الجنس النَّاعم". وتتوالى اعتذاراتُ مُرشِد إلى أن يَقول في أحدِ الرُّدودِ إنَّه: "رُبَّما يتوجَّبُ حَرقَ ذلك العَددِ المَشؤومِ لما فيه من ذمٍّ بالمرأة." وأدرجتِ "الرسالةُ" في عددِها الصَّادرِ في 7 /1/ 1933 مَقالاً افتتاحيًّا في الدِّفاعِ عن المَرأةِ بعُنوان "هي"، كَتبهُ الكاهنُ نقولا النحَّاس، وكذلك مَقالاً افتتاحيًّا آخَر بعنوان "فلْنفتَكرْ قليلاً"، في عددِ 4/2/1933، وهو أوَّلُ مَقالٍ افتتاحيٍّ "للكاتبةِ الأديبةِ صاحبةِ الإمضاء، والتوقيعِ باسم –مُتأمِّلة". وهو عبارةٌ عن رسالةٍ مَفتوحةٍ إلى السيِّدات، رحَّبتِ الصحيفةُ بها تَرحيبًا حارًّا. والرسالة مُوجَّهة إلى سيِّداتٍ أصبحنَ يَعِشنَ في زمنٍ لم يَعهدْهُ البَشرُ من قَبل. وتُشجِّعُ الكاتبةُ بناتِ جنسِها لاختيار ما يُوافقُ ذوقَهُنَّ وتطلُّعاتِهنَّ وطبعَهنَّ وميولَهنَّ دونَ خوفٍ أو تردُّدٍ أو وَجَل. فهذا العَصر، كما تقولُ الكاتبة، يُهيِّئُ للمرأةِ الفُرصةَ السانحة، ويفتحُ البابَ لها على مِصراعيهِ لتحقيقِ رغباتِها، شرطَ أن تُجاهِدَ في سبيلِ حُقوقِها وحُرِّيـَّتِها، وتحثُّ الكاتبةُ المرأَة على ألاَّ تخشى الفَشل، وأن تَعرفَ كيفَ تختارُ ما تُريدُه، لأنَّ الرَّجُلَ لا يُفكِّرُ إلاَّ بالثروةِ أو الشُهرة، إضافةً إلى جَمعِ المال. وتختـتمُ المقالَ بقولِها: "اختاري يا عزيزتي ما تُريدين في هذه الحياة، وما يَستهوي قلبَكِ الطيِّب ويُلائمُ أميالكِ الشريفةِ ويتَّفقُ مع ذوقكِ السَّليم. وحكِّمي عقلكِ قبلَ قلبكِ... ولا تخشَي الفشلَ في جِهادك لأنَّه غالبًا ما يأتي بنتيجةٍ حَسنةٍ لك."
وَضعُ الجاليةِ السُّوريَّة-اللبنانيَّة
والواقعُ أنَّ القارئَ يَشعرُ وهو يُطالعُ صَفحاتِ "الرسالة" بما كان يدورُ في مُجتمعِ الجاليةِ آنذاك. فهذه الجريدةُ مرآةٌ عكسَتْ بشكلٍ دقيقٍ وعفويٍّ حياةَ أبناءِ الجاليةِ اللبنانيَّةِ-السُّوريَّةِ في المَهجر، إضافةً إلى إعطاءِ صورةٍ واضحةٍ ولمحةٍ تاريخيَّةٍ عن حياةِ المُجتمعِ الأمريكيِّ الذي عاشوا فيه وتبنَّوه. فلا ننسَ، مثلاً، أنَّ الثلاثينيَّات كانت عصرَ الانحطاطِ الاقتصاديِّ في أمريكا، وأَنَّ مُهاجرينا عانَوا ما عَاناهُ الشعبُ الأمريكيُّ من الضيقِ الاقتصاديِّ والماليّ، وإن سَعى بعضُهم، مِمَّن أصابَهم اليُسرُ وضحكَتْ لهم الثروة، إلى مُساعدةِ غيرهم من أبناءِ الجاليةِ الذين عضَّهم الجوع. ففي عدد رقم 15 حزيران 1933، نقرأُ في رسالةٍ من أوليان خبرًا عن "كرَم مُواطن" يُدعى خطَّار عيد البعقلينيّ شَعرَ مع بني قومِه "الذين أعياهُم العَوَز،" فراحَ يوزِّعُ على "أبناءِ قَومهِ كلَّ ما يحتاجونَ إليه من حُبوبِ الزَّرعِ وقلقاس البذار."
وفي عدد السَّبت 24 كانون الأوَّل، سنة 1932، كاريكاتور مُعبِّرٌ عن قدومِ السنةِ الجديدةِ وتهنئةٌ بالعام الجديد، مع وداعٍ أليمٍ للعام (32) المُنصرم الذي كان "ضربةً على البشريَّةِ ونقمةً من نقماتِ الدهر." وفي عددِ السَّبت، 28 كانون الثاني 1933، نقرأُ تحليلاً للحالةِ الاقتصاديَّةِ السيِّئةِ في الولاياتِ المُتَّحدة. يقولُ الكاتب: "رُبَّما كانت من أسبابِ الأزمةِ الحربُ العالميَّة، وربَّما الحواجزُ الجُمركيَّة وشريعةُ الكحول ودُيونُ الحَربِ التي أثقلتْ كاهل أوروبَّا." ويُضيفُ أنَّه من الأسبابِ أيضًا استعمالُ الآلاتِ الحَديثةِ بَدلَ اليَدِ العاملة، الأمرُ الذي سبَّبَ البطالة؛ ويَقولُ هذا مُستشهدًا برأيٍ لمُراسلِ جريدةِ "التَيمس" المستر دافيس، مُستنتِجًا أنَّه من الأفضلِ لو عُدنا إلى استعمالِ الجيادِ بَدلَ الآلاتِ الحديثة، ومُستشهِدًا بأقوالٍ لموسوليني، منها نصيحتُه للفلاَّحِ الإيطاليِّ برَمْيِ الآلة وإعادةِ استعمال الجياد.
وتتـناولُ الرسالةُ في عدَّةِ مقالاتٍ أمورَ الاقتصاد: ارتفاعَ أُجرةِ العَامِل، ومَحاسنَ النظام الرأسماليّ ومَساوئه، والحالةَ المَعيشيَّةَ في أمريكا آنذاك، وكيف أنَّ الشعبَ الأمريكيَّ عامَّةً قد "اعتادَ على المَعيشةِ الغاليةِ والمُترفة، فلم تعُد الأجورُ الرخيصة كافيةً لسَدِّ حاجاتهِ، وخصوصًا الكماليَّاتِ منها التي أصبحت عندَهُ من لزوميَّاتِ الحياة." وفي إحصاءٍ نقلَتهُ "الرسالةُ" أنَّ الأمريكيِّين بنيويورك يُنفقونَ "445 ألفَ دولارٍ في الأسبوعِ على "البيرة" بعد أن ظلُّوا ثلاث عشرة سنة محرومين من الخمرِ بحكمِ القانون الذي يُحرِّمُ المُسكِرات؛ فلمَّا أُبيحَتْ لهم أخيرًا، هجمَ الأهالي على البيرة هجومَ الظمآن على الماء، فشربوا في الأسبوعِ الأوَّل نصفَ مليون برميل؛ ولمَّا كان عددُ السكَّان في نيويورك يَبلغُ سبعةَ ملايين، فإنَّ مُتوسِّطَ نصيبِ كلِّ فردٍ منهم هو ثمانيةُ ليترات."
وفي افتتاحيَّةِ العدد رقم 61 الصَّادر في 26 آب 1933، وتحت عنوان "أمراض المُجتمع" يُعالجُ مرشد حالة المُجتمع "الخبيثة السائدة"، ويُشبِّهُ الأغنياء بالحوتِ الذي يبتلعُ الأسماك الصَّغيرة، وذلك لخلوِّ المُجتمع تقريبًا من الفضيلةِ والشرفِ والمروءةِ والمُساواة. ويستعين بأقوالٍ لفردريك نيتشه الذي "بشَّر بمبدإ النشوء الطبيعيّ ورُجوع الإنسان إلى طبيعتِه الحيوانيَّة وهمجيَّتهِ الفاسدة ومُنازَعةِ أخيه في البقاء." ويبدو للكاتبِ أن المُجتمعَ قد تبنَّى مبادئَ نيتشه في الصراع من أجل البقاء.
الرسالةُ والأخبار المُتفرِّقة
في الصفحةِ الأولى من العددِ الأوَّلِ المُتاحِ لنا، يتحدَّثُ مُرشِد عن جَريمةِ خَطفِ طفلٍ "عثروا عليه جُثَّةً بالية"؛ ولولا "بقيَّةٌ من شَعرِهِ وخِرَقٌ من قميصهِ لَما عرفوا أنَّه ابنُ لِندبرغ –الطفلُ المَفقودُ منذُ أوَّلِ شهرِ آذار، ومضى على اختطافِهِ اثنانِ وسبعونَ يومًا." ويمضي مَسعودُ في وَصفِ لَوعةِ الأهلِ وسَعْيِ الحُكومة في البحثِ عن الطفلِ وعن الفاعلين، مُستغربًا أن يقعَ حادثٌ كهذا في "بلادٍ تُعَدُّ من أرقى بُلدانِ العالم." ويتطرَّقُ إلى كيفيَّةِ استغلالِ الصِّحافةِ لهذه القصَّة، فيجدُ أنَّه "من العارِ أن تكونَ دُموعُ الوالدَين والدِّماءُ التي تقطرُ من قلبَيهما موضوعًا لتسليةِ الجرائدِ والمجلاَّتِ التي لا يَهمُّها سوى مَلءِ صفحاتِها بالأخبارِ التي تزيدُ الطينَ بلَّة والطنبورَ نفحة، والتي كما نعتقدُ أوصلتِ القضيَّة إلى هذه النتيجةِ المُفجعة." وتَنتهي المقالةُ بلَومِ الحكومةِ التي كان من المُتوجِّبِ عليها أن تجدَ الفاعلين الأشرارَ... لأنَّها مَسؤولةٌ عن الأولادِ كوالديهم أمام المَدنيَّةِ والإنسانيَّة وأمام الله."
ونقرأُ في مكانٍ آخر انتقادًا لاذعًا لبعضِ الشُّعراءِ والكُتَّابِ لإدمانهم معاقرةَ الخمرة والإفراطِ في شُربها علَّها "توقظُ ذاكِرتَهم،" ثم انتقادًا آخَرَ لاختراعِ الراديو الذي "حرَم الجاليةَ من سَماعِ نغماتِ الفونوغراف المُردِّدِ نغماتِ أحاديثِ السُّوريِّين. فالخسارةُ لا تُعوَّض." ويتبعُ ذلك نقدٌ للأزمةِ الاقتصاديَّةِ الخانقةِ التي كانت تمرُّ بها أمريكا في الثلاثينيَّات من القرنِ المُنصرِم.
وفي أكثرِ من عددٍ نقرأُ مقالةً أو قِصَّةً في "الرسالة" مَنقولةً مُباشرةً من جريدةٍ لبنانيَّةٍ.
وهكذا كانت "الرسالة" همزةَ وَصْلٍ لا بين أبناءِ الجاليةِ المغتربين فحَسْب، بل بينهم وبين وَطنهم الأُمّ كذلك. فهذا مثلاً خبرٌ بعنوان "مناظر لبنان على لوح السينما" يصفُ الكاتبُ فيه فِلمًا يُصوِّرُ مَشاهدَ لطبيعةِ لبنان وسوريا ولمعالمهما العُمرانيَّة، ولمأتمِ "النابغةِ اللبنانيّ" جُبران خليل جُبران. وقد عُرِضَ هذا الفِلمُ في مُدُنٍ وولاياتٍ مُتعدِّدةٍ في أمريكا.
وربَّما لا نُغالي إذا اعتبرنا "الرسالة" مرجعًا نستطيعُ عبرَ صفحاته أن نُحصيَ عددَ النشراتِ والجرائدِ العربيَّةِ التي كانت تصدرُ تِباعًا في العشرينيَّاتِ والثلاثينيَّات من القرن العشرين في أمريكا الشماليَّة. وإن يكُن مُعظمُ هذه النشرات قد بقيَ في حيِّزٍ محدودٍ ضيِّق من حيثُ التوزيع والانتشار، إلاَّ أنَّه يُعطينا فكرةً واضحةً عن نشاطِ أبناءِ الجاليةِ وحُبِّهم للاطِّلاعِ والاتِّصالِ الدَّائمِ بمواطنيهم ووطنهم، وتعلُّقهم باللُّغةِ العربيَّةِ أوَّلاً، لأنَّها لُغتهم الأُمّ، وثانيًا، لأنَّ تمكُّنَهم من اللغةِ الإنكليزيَّةِ لم يَكنْ راسخًا بعد. وهذا سبَّبَ ارتياحَهم لهذه الجرائد العَربيَّة التي تُعبِّرُ عن مَشاعِرهم وحَنينهم ونشاطاتهم بلُغةٍ قريبةٍ إلى قلوبهم وقُدراتِهم اللُغويَّة. فإضافةً إلى "الهُدى" و"السائح" و"كوكب أمريكا"، تَرِدُ في "الرسالةِ" أسماءُ "النشرة الأوليانيَّة"، و"النيازك" الصادرة في نياغارا لنجم موسى الأسود، و"الاتّحاد" في ديترويت، و "السمير" النيويوركيَّة، و"الشعب" في ديترويت، ليوسف مراد الخوري، و"لسان العَدل" (1933) لشكري كنعان، و"الحريَّة" في دنبري- كنَّيتيكَت، للخوري نسيب وهبه وإسكندر خلَف وألكسي عازار. ويُطالعنا في "الرسالة" خبرٌ مهمّ عن اتِّحادِ جريدتَي "مسرح الأقلام" في أوليان والـ "النيازك" في نياغارا فولْز في جريدةٍ واحدة.
وإن كُنَّا لا نعرفُ بالضبطِ متَى توقَّفتِ "الرسالةُ" عن الصُّدور ولماذا، وتحتَ أيَّةِ ظروفٍ، إلاَّ أنَّنا على يقينٍ من أمرين اثنَين: أوَّلاً، أنَّ "الرسالةَ" استمرَّت لوقتٍ طويلٍ بعد عامها السادس؛ ثانيًا: أنَّها انتقلتْ في سنواتِها الأخيرة من مرحلة (المخطوطة) إلى نشرةٍ تُطبَعُ على الآلاتِ الحديثةِ طباعةً ميكانيكيَّةً أنيقة. فبالنسبةِ لاستمراريَّةِ "الرسالة" نَراها تدخلُ عامَها السَّابع مُودِّعةً "مراحلها المُنصرمة بابتسامةِ الظافر،" وتستقبلُ عامَها الجديد "بابتسامة الواثق... في جيشٍ من الأنصارِ أصبح كبيرًا بعدَده ومُساعداته وغيرته." وهكذا، من الواضح أنَّ "الرسالة" في عامِها السابع (1933) ظهرَتْ حثيثةَ الخُطى، واثقةً من نفسها، مُتضمِّنةً مقالاتٍ أطولَ وموضوعاتٍ أكثرَ تنوُّعًا مِمَّا كانتْ تُعالجهُ في سنواتِها السابقة. حتَّى من ناحيةِ المَظهر والإخراج والنوعيَّة، أَصبحت الصَّفحاتُ أوضح، والخطُّ أفضل، وتضمَّنتْ عددًا أكبرَ من الإعلانات، وبقيَتْ هيئتها الإداريَّة هي ذاتها: مرشد جرجس مسعود "مُنشئها ومُحرِّرها"، ووديع رزق الله "مديرُها المسؤول"، واستمرَّ اشتراكُها السنويُّ "ريالَين ونصفَ ريال في جميع الجهات، وعنوانها في 71 شارع ستايْت، هورنِل، نيويورك.
وكما ذكرنا سابقًا، انتقلَ مُرشِد إلى مدينة سيراكيوز بين العامين 1934-1935، و"الرسالة" آنذاك في عامها الثامن أو التاسع. واستنادًا إلى نسخةٍ من رسالةٍ مدَّني بها السيِّد ريك جورج، كانت بين أوراق جدِّه مُرشد، وهي مطبوعة وليستْ مخطوطة— وهذا يُثبتُ قولَنا أنَّ مُرشِد مسعود امتلَك آنذاك مطبعةً حديثة، أو هو استعانَ بواحدةٍ لإصدارِ جريدته— وردَ عنوانُ "الرسالة" باللغة الإنكليزيَّة كالآتي:
The Message
Publisher and Editor, M. George
300 Hovey St.
Phone 5-7361
Syracuse, N.Y, U.S.A
وقد غابَ عن العنوان اسمُ وديع رزق الله، المُدير المسؤول.
1.John G. Moses, How the Lebanese Advanced Civilization, Beacon Press, New York, 1997, p.90.
2. Ibid. p.90.
3. ميخائيل نعيمة: "جبران خليل جبران" (بيروت: مُؤَسَّسة نَوفَل، 1991)، ص 151.
4-"جبران والصِّحافة المهجريَّة"، مقال هنري ملكي في مجلَّة "دراسات في الآداب والعلوم الإنسانيَّة"، كُليَّة التربية، الجامعة اللبنانيَّة، بيروت، السنة العاشرة، العدد 11/83. ص 5.
5. مقالتي "الزجل اللبناني"، مجلَّة "صوت داهش"، السنة السادسة، العدد الأوَّل، صيف 2000، ص 68.
6. ميخائيل نعيمة: "سبعون"، المجموعة الكاملة، المُجلَّد الأوَّل، (بيروت: دار العلم للملايين)، ص 314-315.